وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} مَدَدْنَاهَا: أَيْ: بَسَطْنَاهَا، وفَرَشْنَاها، ومَهَّدْناها، لِقَوْلِهِ في الآيَةِ: 30، مِنْ سُورَةِ النَّازِعاتِ: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} ودَحَا الشيْءَ بسَطَهُ، ولقولِهِ في سُورَةِ الذَّارِياتِ: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْماهِدُونَ} الآيةَ: 48. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الحَمِيدِ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا" قَالَ: قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَالْأَرْض بَعْدَ ذَلِك دَحَاها} قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ أُمَّ الْقُرَى مَكَّةُ وَمِنْهَا دُحِيَتِ الأَرْضُ. قَالَ وَكَانَ الْحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُول: أَخَذَ طِينَةً فَقَالَ لَهَا انْبَسِطِي. أَيْ إنَّ اللهَ تَعَالى جَعَلَها كَذَلِكَ في مَرْأَى العَيْنِ، مَمْدودَةَ الطُّولِ والعَرْضِ مُمَهَّدَةً، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَمَكَّنَ الإنْسَانُ عَلَيْها ويَنْتَفِعَ بِها، وإلَّا فَهِيَ كُرَوِيَّةٌ بَيْضَوِيَّةُ الشَّكْلِ كَمَا ثَبَتَ عِلْمِيًا. وهَذِهِ مِنَ الأَدِلَّةِ أَيْضًا عَلَى وَحْدانِيَّةِ اللهِ تعالى وقُدْرَتِهِ وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ كما رَأَيْنا في الآيةِ: 18، السَّابِقَةِ، إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ الْأَرْضِيَّةِ لِمُنَاسَبَةِ الْمُضَادَّةِ بَيْنَهُمَا.
قولُهُ: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} رواسي: مُفرَدُها رَاسِي، وَالْجَمْعُ رَاسِيَةٌ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ رَوَاسِي، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النَّحْل: {وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} الآية: 15، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، خَلَقَ الْأَرْضَ والجِبالَ مَعًا، ويُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَلَقَها بِدُونِ الْجِبَالِ فَمَالَتْ بِأَهْلِهَا فَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ بَعْدَ ذَلِكَ. لقَولِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: لَمَّا بَسَطَ اللهُ تَعَالَى الْأَرْضَ عَلَى الْمَاءِ مَالَتْ بِأَهْلِهَا كَالسَّفِينَةِ فَأَرْسَاهَا اللهُ تَعَالَى بِالْجِبَالِ الثِّقَالِ لِكَيْلَا تَمِيلَ بِأَهْلِهَا. وقالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: رَوَاسِيهَا جِبَالُها. فقد ثَبَّتَ اللهُ الأَرْضَ بإِلْقاءِ الجِبَالِ الرَّوَاسِي فِي جَوَانِبِها المُخْتَلِفَةِ، كَيْلا تَضطَّرِبَ بِبَنِي آدَمَ. وَقِيلَ: يَعْنِي بالجِبَالِ جَواهِرَها مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَغَيْرِهَا، كالزَّرْنِيخِ وَالْكُحْلِ، وكُلُّ ذَلِكَ يُوزَنُ وَزْنًا. وَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ "أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ" أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا لِتَكُونَ دَلَالَةً لِلنَّاسِ عَلَى طُرُقِ الْأَرْضِ وَنَوَاحِيهَا لِأَنَّهَا كَالْأَعْلَامِ فَلَا تَمِيلُ النَّاسُ عَنِ الْجَادَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَلَا يَقَعُونَ فِي الضَّلَالِ وَهَذَا الوَجْهُ ظَاهِرُ الِاحْتِمَالِ.
قولُهُ: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} أَيْ: أَوْجَدْنَا فِيها كُلَّ شَيْءٍ مُقَدَّرٍ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ، مَوْزُونٍ بِمِيزانِ الحِكْمَةِ، مُقَدَّرٍ مُحَدَّدٍ بِقَصْدٍ وإرادةٍ. والضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: "وَأَنْبَتْنا فِيها" يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْأَرْضِ، وهوَ الأَوْلَى لِأَنَّ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ فِي الْأَرَاضِي، فَأَمَّا الْفَوَاكِهُ الْجَبَلِيَّةُ فَقَلِيلَةُ النَّفْعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْجِبَالِ الرَّوَاسِي، لِأَنَّ الْمَعَادِنَ إِنَّمَا تَتَوَلَّدُ فِي الْجِبَالِ، وَالْأَشْيَاءُ الْمَوْزُونَةُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ هِيَ الْمَعَادِنُ لَا النَّبَاتُ. وَإِنَّمَا قَالَ "مَوْزُونٍ" لِأَنَّ الْوَزْنَ يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُ الشَّيْءِ. كما قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقَائِكُمْ ذَا مِرَّةٍ ............... عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزَانُهُ
ميزانُهُ: قَدْرُهُ. ويقالُ: قامَ مِيزانُ النَّهَارِ إذا انْتَصَفَ، وفي الحَديثِ الشريف: {سُبْحانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وزِنَةَ عَرْشِهِ، أَيْ بوَزْنِ عَرْشِهِ، في عِظَمِ قَدْرِهِ، وهو مِنْ: وَزَنَ يَزِنُ وَزْنًا وزِنَةً، كَوَعَدَ يَعِدُ عِدَةً، وأَصْلُ الكَلِمَةِ الواوُ، والهاءُ فِيها عِوَضٌ مِنَ الواوِ المَحْذوفَةِ مِنْ أَوَّلِهِ. قالَ تَعَالى في سُورةِ القَمَرِ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} الآيَةَ: 49. وقَالَ ابْنُ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي تُوزَنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ" قَالَ: مَعْلُوم. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ" قَالَ: مُقَدَّرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ" قَالَ: مُقَدَّرٍ بِقَدَرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ" قَالَ: الْأَشْيَاء الَّتِي تُوزَنُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ" قَالَ: مَا أَنْبَتَتِ الْجِبَالُ مِثْلَ الْكُحْلِ وَشِبْهِهِ. فقَدْ أَنْبَتَ اللهُ في الأَرْضِ الزُّرُوعَ والثِمَارَ المُنَاسِبَةَ، المُقَدَّرَةَ بِمِيزانٍ مَعْلومٍ. وقالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ" يَقُولُ: مَعْلُومٌ مَقْسُومٌ. وثَمَّةَ وجهٌ آخَرُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا اللَّفْظِ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَقُولُونَ: فُلَانٌ مَوْزُونُ الْحَرَكَاتِ أَيْ حركاتٌ مُتَنَاسِبَةٌ حَسَنَةٌ مُطَابِقَةٌ لِلْحِكْمَةِ، وَيقولونَ: هَذَا الْكَلَامُ كَلَامٌ مَوْزُونٌ إِذَا كَانَ مُتَنَاسِبًا حَسَنًا بَعِيدًا عَنِ اللَّغْوِ وَالسُّخْفِ، فَكَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُ مَوْزُونٌ بِمِيزانِ الحِكْمَةِ والعَقْلِ، وبالجُمْلَةِ فَقَدْ جَعَلُوا لَفْظَ الْمَوْزُونِ كِنَايَةً عَنِ الْحُسْنِ وَالتَّنَاسُبِ، فَقَوْلُهُ: "وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ" أَيْ مُتَنَاسِبٍ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ بِالْحُسْنِ وَاللَّطَافَةِ وَمُطَابَقَةِ الْمَصْلَحَةِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} وَالْأَرْضَ: مَنْصوبٌ عَلَى الاشْتِغَالِ، بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ وُجُوبًا يُفَسِّرُهُ المَذْكورُ بَعْدَهُ، والتقديرُ: وَبَسَطْنَا الأَرْضَ مَدَدْنَاهَا، والجملة منَ الفعلِ وفاعِلِهِ المُقَدَّرَيْنِ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "جَعَلْنَا" عَلَى كَوْنِها جَوابَ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، و "مَدَدْنَاهَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المعظِّمِ نفسَهُ، و "نا" التعظيمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعلُهُ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ مفْعُولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مُفَسّرَةٌ للفعلِ المحذوفِ وفاعِلِهِ، فليس لها مَحلٌّ مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} وَأَلْقَيْنَا: الواوُ: عاطِفَةٌ والجملةُ مَعطوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ المقدَّرةِ: وَبَسَطْنَا الأَرْضَ، و "فِيهَا" في: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَلْقَيْنا"، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "رَوَاسِيَ" مُفْعُولٌ بِهِ لِـ "أَلْقَيْنا" منصوبٌ.
قولُهُ: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} وَأَنْبَتْنَا: الواوُ: حرْفُ عَطْفٍ و "أَنْبَتْنَا" مثل: "أَلْقَيْنَا" على كونِهِ مَعْطوفًا عَلَى "بسطنا" المحذوف، والمفعولُ هنا محذوفٌ، تقديرُهُ: ضُرُوبًا أَلوانًا، و "فِيهَا" في: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْبَتْنا"، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ للمَفعولِ المَحذوفِ، و "مَنْ" هنا للتَبْعيضِ، ويَجُوزُ عِنْدَ الأخفش والكُوفِيِّينَ أَنْ تَكونَ مَزيدةً. و "كلِّ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، و "شَيْءٍ" مجرورٌ بالإضافة إليهِ، و "مَوْزُونٍ" صِفَةٌ لِـ "شَيْءٍ" مجرورةٌ مِثْله.