وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ
(17)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} الْمُرَادُ بِالْحِفْظِ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْحِفْظُ مِنَ اسْتِقْرَارِهَا وَتَمَكُّنِهَا مِنَ السَّمَاوَاتِ. و "رَجِيمٍ" أَيْ: مَرْجُومٍ، مَرْمِيٍّ بالنُّجُومِ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَصْعَدَ إِلَيْها، وَيُوَسْوِسَ في أَهْلِهَا، ويَتَصَرَّفَ فِيها، وَيَقِفَ عَلَى أَحْوالِهَا، وَالرَّجْمُ الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَى "رَجيمٍ" مَلْعُونٍ مَطْرُودٌ. فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ" قَالَ: الرَّجِيمُ المَلْعُونُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: كُلُّ رَجِيمٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ بِمَعْنَى الشَّتْمِ. فَالرَّجِيمُ: الْمُحَقَّرُ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا احْتَقَرُوا أَحَدًا حَصَبُوهُ بِالْحَصْبَاءِ، كَما قَالَ تَعَالَى في الآية: 34، مِنْ هَذِهِ السورةِ المُباركةِ: {قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}، أَيْ ذَمِيمٌ مُحَقَّرٌ. وَالرُّجَامُ ـ بِضَمِّ الرَّاءِ: الْحِجَارَةُ، فيُحْتَمَلُ أنَّها أَصْلُ الِاشْتِقَاقِ، وَيُحْتَمَلُ الْعَكْسُ. وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَرْجُمُ قَبْرَ أَبِي رِغَالٍ الثَّقَفِيِّ الَّذِي كَانَ دَلِيلَ جَيْشِ الْحَبَشَةِ إِلَى مَكَّةَ المُكَرَّمةَ حينَ توجَّهَ أَبْرَهَةُ الحبشِيُّ إِلَيْها يُريدُ أَنْ يهدِمَ الكَعْبَةَ المُشَرَّفَةَ. ذَكَرَ ذلكَ الشاعِرُ الأُمَويُّ جَرِيرٌ في معرِضِ هجائهِ لخَصْمِهِ الشاعِرِ الفَرَزْدَق بقولِهِ:
إِذَا مَاتَ الْفَرَزْدَقُ فَارْجُمُوهُ .................. كَمَا تَرْمُونَ قَبْرَ أَبِي رِغَالِ
وَالرَّجْمُ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ حَكَاهَا الْقُرْآنُ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ في سُورَةِ الشُعراءِ فقالَ، {قالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} الآية: 116. وَحكاها أَيْضًا في سُورَةِ مريمَ عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ فقال: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} الآية: 46. وَحكاهُ في سُورَةِ هودٍ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ فقَالَ: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} الآية: 91.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الرَّجْمُ الْمَذْكُورُ عَقِبِهِ فِي قَوْلِهِ: {فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ} لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ قبْلَ ذَلِكَ فِي الآيةِ: 18، التاليةِ لهذِهِ الآية إذْ يَقولُ: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ}. وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: كَانَ الشَّيَاطِينُ لَا يُحْجَبُونَ عَنِ السَمَوَاتِ، وَكَانُوا يَدْخَلُونَهَا، وَيَأْتُونَ بِأَخْبَارِهَا، فَيُلْقُونَهُ عَلَى الكَهَنَةِ مَا سَمِعُوا، فَيَزِيدُونَ عَلَيْهَا تِسْعًا فَيُحَدِّثُونَ بِهَا أَهْلَ الْأَرْضِ، الْكَلِمَةُ حَقٌّ وَالتِّسْعُ بَاطِلٌ، فَإِذَا رَأَوْا شَيْئًا مِمَّا قَالُوهُ صَدَّقُوهُمْ فِيمَا جَاءُوا بهَ، فَلَمَّا وُلِدَ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مُنِعُوا مِنْ ثَلاثِ سَمَاوَاتٍ، فَلَمَّا وُلِدَ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُنِعُوا مِنَ السَمَوَاتِ كُلِّها أَجْمَعَ، فَمَا مِنْهُمْ مَنْ أَحَدٍ يُرِيدُ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ إِلَّا رُمِيَ بِشِهَابٍ، فَلَمَّا مُنِعُوا مِنْ تِلْكَ الْمَقَاعِدِ ذَكَرُوا ذَلِكَ لِإِبْلِيسَ، فَقَالَ: لَقَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ حَدَثٌ، قال: فبَعَثَهمْ يَنْظُرونَ مَا الخَبَرِ، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتْلُو الْقُرْآنَ فَقَالُوا: هَذَا وَاللهِ الحَدَثُ. وَرُوِيَ مِثْلُ ذلكَ عَنِ الْكَلْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: إِنَّ السَّمواتِ كُلَّهَا لَمْ تُحْفَظْ مِنَ الشَّيَاطِينِ إِلَى زَمَنِ عِيسَى، فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ تَعَالَى عِيسَى حَفِظَ مِنْها ثَلاثَ سَمَوَاتٍ إِلَى مَبْعَثِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَفِظَ جَمِيعَها بَعْدَ بَعْثِهِ، وَحُرِسَتْ مِنْهُمْ بِالشُّهُبِ.
وَفِي سُورَةِ الْجِنِّ دَلَالَةٌ واضحةٌ عَلَى أَنَّ تَنَصُّتَ الشَيَاطِينِ قَدْ مُنِعَ بَعْدَ الْبِعْثَةِ المُحَمَّدِيَّةِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ الكريمِ، وذَلِكَ إِحْكَامًا لِحِفْظِ الْوَحْيِ مِنْ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَى النَّاسِ بِالْكِهَانَةِ، فَيَكُونُ مَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ السَيِّدَةِ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِي الله عَنْهُما، مِنَ اسْتِرَاقِ الْجِنِّ السَّمْعَ وَصْفًا لِلْكِهَانَةِ السَّابِقَةِ. وَيَكُونُ قَوْلُهُ فيهِ: ((لَيْسُوا بِشَيْءٍ)) وَصْفًا لِآخِرِ أَمْرِهِمْ. فقد أخرجَ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: قَالَتْ أُمُّ المؤمنينَ السيِّدةُ عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْسُوا بِشَيْءٍ)). قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا؟. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِئَةِ كَذْبَة)). مُسْنَدُ الإمامِ أَحْمَدٍ، ط/ الرسالة: (41/118)، وأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: (20347)، والبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ: (5762) و (7561)، ومُسْلِمٌ في صحيحِه: (2228) و (122)، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ: (8/138)، والبَغَوِيُّ في شَرْحِ السُنَّةِ: (3258) وابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ: (6136)، والطَبَرانيُّ في الأَوْسَطِ: (670)، وغيرُهم. وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وُجُودُ مَخْلُوقَاتٍ تُسَمَّى بِالْجِنِّ وَبِالشَّيَاطِينِ بِقَوْلِهِ: {وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} سُورَةِ (ص): 37 الْآيَةَ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُخَصَّ بِاسْمِ الْجِنِّ نَوْعٌ لَا يُخَالِطُ خَوَاطِرَ الْبَشَرِ، وَيُخَصُّ بِاسْمِ الشَّيَاطِينِ نَوْعٌ دَأْبُهُ الْوَسْوَسَةُ فِي عُقُولِ الْبَشَرِ بِإِلْقَاءِ الْخَوَاطِرِ الْفَاسِدَةِ. وَظَوَاهِرُ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ أَصْنَافٌ، وَأَنَّهَا سَابِحَةٌ فِي الْأَجْوَاءِ وَفِي طَبَقَاتٍ مِمَّا وَرَاءَ الْهَوَاءِ وَتَتَّصِلُ بِالْأَرْضِ، وَأَنَّ مِنْهَا أَصْنَافًا لَهَا اتِّصَالٌ بِالنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ دُونَ الْأَجْسَامِ وَهُوَ الْوَسْوَاسُ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ الْبَشَرُ. وَبَعْضُ ظَوَاهِرِ الْأَخْبَارِ مِنَ السُّنَّةِ تَقْتَضِي أَنَّ صِنْفًا لَهُ اتِّصَالٌ بِنُفُوسٍ ذَاتِ اسْتِعْدَادٍ خَاصٍّ لِاسْتِفَادَةِ مَعْرِفَةِ الْوَاقِعَاتِ قَبْلِ وُقُوعِهَا أَوِ الْوَاقِعَاتِ الَّتِي يَبْعُدُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ بُلُوغُ وُقُوعِهَا، فَتَسْبِقُ بَعْضُ النُّفُوسِ بِمَعْرِفَتِهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا الْمُعْتَادِ. وَهَذِهِ النُّفُوسُ هِيَ نُفُوسُ الْكُهَّانِ وَأَهْلِ الشَّعْوَذَةِ، وَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْجِنِّ أَوِ الشَّيَاطِينِ هُوَ الْمُسَمَّى بِمُسْتَرِقِ السَّمْعِ وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ}. فَهَذَا الصِّنْفُ إِذَا اتَّصَلَ بِتِلْكَ النُّفُوسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِلِاخْتِلَاطِ بِهِ حُجِزَ بَعْضُ قُوَاهَا الْعَقْلِيَّةِ عَنْ بَعْضٍ فَأُكْسِبَ الْبَعْضُ الْمَحْجُوزُ عَنْهُ ازْدِيَادَ تَأْثِيرٍ فِي وَظَائِفِهِ بِمَا يَرْتَدُّ عَلَيْهِ مِنْ جَرَّاءِ تَفَرُّغِ الْقُوَّةِ الذِّهْنِيَّةِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِمُزَاحَمَةٍ إِلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، فَتُكْسِبُهُ قُدْرَةً عَلَى تَجَاوُزِ الْحَدِّ الْمُعْتَادِ لِأَمْثَالِهِ، فَيَخْتَرِقُ الْحُدُودَ الْمُتَعَارَفَةَ لِأَمْثَالِهِ اخْتِرَاقًا مَا، فَرُبَّمَا خَلُصَتْ إِلَيْهِ تَمَوُّجَاتٍ هِيَ أَوْسَاطٌ بَيْنَ تَمَوُّجَاتِ كُرَةِ الْهَوَاءِ وَتَمَوُّجَاتِ الطَّبَقَاتِ الْعُلْيَا الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، مِمَّا وَرَاءَ الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ.
وَإِذا كانَتْ هَذِهِ الطَّبَقَةَ هِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا وَهَذِهِ التَّمَوُّجَاتِ هِيَ تَمَوُّجَاتُ الْأَثِيرِ فَإِنَّهَا تَحْفَظُ الْأَصْوَاتَ مَثَلًا، وقد أثبتَ العلمُ الحديثُ إمكان تسجيلِ هذِهِ الأَصْواتِ والتِقَاطِ الأَشْباحِ التي صَدَرتْ عنها هذه الأَصْواتِ مِنَ أَمْواجِ الأَثيرِ، ولكنَّ الأَمْرَ لَيْسِ بالسَّهْلِ وما زالتِ التجاربُ في بدايَتِها، إذْ منَ العسيرِ جِدًّا تَمْييزُ صَوْتٍ بِعَيْنِهِ وَصُورَةٍ بِعَيْنِها مِنْ بِيْنِ عَدَدٍ هائلٍ مِنَ الأَصْواتِ والصُوَرِ لا يُحْصِيهِا إِلَّا خالِقُها ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، ولكنْ قدْ لا يكونُ الأمرُ مستحيلًا، وربَّما علَّمَ اللهُ تعالى عبادَهُ كيفيَّةَ حلِّ هَذِهِ المعضِلَةِ. ثُمَّ إنَّ هَذِهِ التَّمَوُّجَاتِ الَّتِي تَخْلُصُ إِلَى عُقُولِ أَهْلِ هَذِهِ النُّفُوسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهَا تَخْلُصُ إِلَيْهَا مُقَطَّعَةً مُجْمَلَةً فَيَسْتَعِينُ أَصْحَابُ تِلْكَ النُّفُوسِ عَلى التَأليفِ بينَها، وتَأْليفُها إنَّما يكونُ بِمَا فِي طِبَاعِهِمْ مِنْ ذَكَاءٍ وَزَكَانَةٍ، وَيُخْبِرُونَ بِحَاصِلِ مَا اسْتَخْلَصُوهُ مِنْ بَيْنِ مَا تَلَقَّفُوهُ وَمَا أَلَّفُوهُ وَمَا أَوَّلُوهُ. وَهُمْ فِي مُصَادَفَةِ بَعْضِ الصِّدْقِ مُتَفَاوِتُونَ عَلَى مِقْدَارِ تَفَاوُتِهِمْ فِي حِدَّةِ الذَّكَاءِ وَصَفَاءِ الْفَهْمِ وَالْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، وَعَلَى مِقْدَارِ دُرْبَتِهِمْ وَرُسُوخِهِمْ فِي مُعَالَجَةِ مِهْنَتِهِمْ وَتَقَادُمِ عَهْدِهِمْ فِيهَا. فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْكُهَّانُ، وَكَانُوا كَثِيرِينَ بَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ. وَتَخْتَلِفُ سُمْعَتِهِمْ بَيْنَ أَقْوَامِهِمْ بِمِقْدَارِ مُصَادَفَتِهِمْ لِمَا فِي عُقُولِ أَقْوَامِهِمْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ لِسَذَاجَةِ عُقُولِ الْقَوْمِ أَثَرًا مَا، وَكَانَ أَقْوَامُهُمْ يَعُدُّونَ الْمُعَمَّرِينَ مِنْهُمْ أَقْرَبَ إِلَى الْإِصَابَةِ فِيمَا يُنْبِئُونَ بِهِ، وَهُمْ بِفَرْطِ فِطْنَتِهم واسْتِغْفَالِهم البُلْهَ مِنْ مُرِيدِيهِمْ، لَا يُصْدِرُونَ إِلَّا كَلَامًا مُجْمَلًا مُوَجَّهًا قَابِلًا لِلتَّأْوِيلِ بِعِدَّةِ احْتِمَالَاتٍ، بِحَيْثُ لَا يُؤْخَذُونَ بِالتَّكْذِيبِ الصَّرِيحِ، فَيَكِلُونَ تَأْوِيلَ كَلِمَاتِهِمْ إِلَى مَا يَحْدُثُ لِلنَّاسِ فِي مِثْلِ الْأَغْرَاضِ الصَّادِرَةِ فِيهَا تِلْكَ الْكَلِمَاتُ، وَكَلَامُهُمْ خُلُوٌّ مِنَ الْإِرْشَادِ وَالْحَقَائِقِ الصَّالِحَةِ. وَهُمْ بِحِيلَتِهِمْ وَاطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَيَادِينِ النُّفُوسِ وَمُؤْثِرَاتِهَا الْتَزَمُوا أَنْ يَصُوغُوا كَلَامَهُمُ الَّذِي يُخْبِرُونَ بِهِ فِي صِيغَةٍ خَاصَّةٍ مُلْتَزَمًا فِيهَا فِقْرَاتٌ قَصِيرَةٌ مُخْتَتَمَةٌ بِأَسْجَاعٍ، لِأَنَّ النَّاسَ يَحْسَبُونَ مُزَاوَجَةَ الْفِقْرَةِ لِأُخْتِهَا دَلِيلًا عَلَى مُصَادَفَتِهَا الْحَقَّ وَالْوَاقِعَ، وَأَنَّهَا أَمَارَةُ صِدْقٍ. وَكَانُوا فِي الْغَالِبِ يَلُوذُونَ بِالْعُزْلَةِ، وَيُكْثِرُونَ النَّظَرَ فِي النُّجُومِ لَيْلًا لِتَتَفَرَّغَ أَذْهَانُهُمْ. فَهَذَا حَالُ الْكُهَّانِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى أُسُسِ الدَّجَلِ وَالْحِيلَةِ وَالشَّعْوَذَةِ مَعَ الِاسْتِعَانَةِ بِاسْتِعْدَادٍ خَاصٍّ فِي النَّفْسِ وَقُوَّةٍ تَخْتَرِقُ الْحَوَاجِزَ الْمَأْلُوفَةَ.
وَهَذَا يُفَسِّرُهُ مَا فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وغيرِهِ عَنْ أُمِّ المؤمنينَ السيدة عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها وأَرْضَاها: أَنَّ نَاسًا سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: ((لَيْسُوا بِشَيْءٍ)) أَيْ لَا وُجُودَ لِمَا يَزْعُمُونَهُ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطِفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقِرُّهَا فِي أُذُنِ وَلَيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِئَةِ كِذْبَةٍ)) وقد تقدَّمَ تخريجُ الحديثِ.
وفي هذهِ الآيةِ الكريمةِ يُوضِحُ اللهُ ـ تَعَالى، أَنَّهُ خَلْقَ هَذَا الكَوْنَ العَظِيمَ، وَحَفِظَهُ مِنْ أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ فَسَادٌ أَوْ عَبَثٌ. وَوَصَفَ الشَيَاطِينُ الذينَ حَفِظَ اللهُ السَّمَاواتِ مِنْهُم، بِأَنَّهم مَرْجُومُونَ مَلْعُونُونَ مَطْرودونَ مِنْ رَحْمَتِهِ؛ ولمْ يُبَيِّنْ لنا مَنْ هم، ولَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ المُطَهَّرةِ مَنْ هُمْ، ونحنُ نَكْتَفِي بِما بَيَّنَ لنا ـ سُبْحانَهُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} الوَاوُ: حرفٌ للعَطْفِ، و "حَفِظْنَاهَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبحانَهُ وتَعَالى، و "نا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، وَ "هَا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "حَفِظْنا". و "كُلِّ" مجرورٌ بِحَرِفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "شَيْطَانٍ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِليْهِ. و "رَجِيمٍ" صِفَةٌ لِـ "شَيْطَانٍ" مجرورةٌ مثلُه، والجملةُ معطوفةٌ على جملةِ قولِهِ "زَيَّنَّاهَا" المعطوفةِ على جُملةِ قولِهِ "جعلنا" التي ليس لها مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ لأَنَّها جَوابُ القَسَمِ.