الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الحجر، الآية: 65
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ
(65)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} أَسْرِ: مِنَ السُّرَى وهوَ السَّيْرُ في اللَّيْلِ، ويُقَالُ: سَرَى وأَسْرَى، بِمَعْنًى، وَ "قِطْعٍ"، الْقِطْعُ: آخِرُ اللَّيْلِ. فقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي (الْوَقْفِ والابْتِداءِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الأَزْرَقِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ"، مَا قِطْع؟ قَالَ: آخِرُ اللَّيْلِ، سَحَرًا، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ كِنَانَةَ:
وَنَائِحَةٌ تَقُومُ بِقِطْعِ لَيْلٍ ...................... عَلَى رَجُلٍ أَصَابَتْهُ شَعُوبُ
الشَعوبُ: الداهيَةُ . وَقَالَ الشَّاعِرُ زِيادٌ الأَعْجَمُ:
افْتَحِي الْبَابَ وَانْظُرِي فِي النُّجُومِ .......... كَمْ عَلَيْنَا مِنْ قِطْعِ لَيْلٍ بَهِيمِ
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ" قَالَ: بِطَائِفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ. أَيْ: سِرْ أَنْتَ وأَهْلَكَ مِنْ نِساءٍ وأَبْنَاءٍ. في جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ. وقِيلَ القِطْعُ: نِصْفُ اللَّيْلِ، وهو مَأْخُوذٌ مِنْ قَطَعَهُ نِصْفَيْنِ. ويَجُوزُ فَتْحَهُ فتَقُولُ: قَطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ، فهُمَا لُغَتَانِ. والقِطْعُ أَيْضًا: ضَرْبٌ مِنَ الثِّيابِ عَلَى صِفَةِ الزَّرَابي أَوِ الحِيرِيَّةِ، وهيَ الثِيابُ المُوَشَّاةُ، لأَنَّ وَشْيَهَا مَقْطُوعٌ فِيهَا، والجَمْعُ: قُطُوعٌ؛ ومنهُ قوْلُ الشَّاعِرِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الحَكَمِ بْنُ العاصِ، يَمْدَحُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبي سُفْيانٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما:
أَتَتْكَ العِيسُ تَنْفَحُ في بُراها .............. تَكَشَّفُ عَنْ مَنَاكِبِها القُطُوعُ
والقِطْعُ أَيضًا: نَصْلٌ صَغِيرٌ يُجْعَلُ فِي السَّهْمِ، والجَمْعُ أَقْطَاعٌ. وهو نَصْلٌ قَصيرٌ عَريضٌ. قالَ الهُذَلِيُّ:
وأَني إِذا مَا الصُّبْحُ آنَسْتُ ضَوْءَهُ ............. يُعَاوِدُني قِطْعٌ عَلَيَّ ثَقِيلُ
والقَطِيعُ: شَبِيهُ النَّظِيرِ، فَتَقُولُ: هَذَا قَطِيعٌ مِنَ الثِيابِ الَّتي قُطِعَ مِنْها. والعَرَبُ تَقُولُ: قَطِيعُ الكَلامِ، أَيْ مُنْقَطِعٌ مَقْطُوعٌ. والقُطْعَةُ لُغَةٌ في القِطْعَةِ؛ رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا مِنْ بِاهِلَةَ قَالَ: غَلَبَني فُلانٌ عَلَى قُطْعَةِ أَرْضَي، يَعْنِي القُطْعَةَ المَحْدُودَةَ. والقُطْعَةُ: مَوْضِعُ القَطْعِ مِنْ يَدِ الأَقْطْعِ، والقُطْعَان: جَمَاعَةُ الأَقْطُعِ. والأُقْطُوعَةُ: شَيْءٌ تَبْعَثُ بِهِ الجَارِيَةُ إِلَى الجَارِيَةِ عَلامَةً أَنَّهَا صَارَمَتْها. والقِطْع: الطِّنْفِسَةُ تَكُونُ عَلَى كَتِفَيِ البَعِيرِ.
قوْلُهُ: {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} يَعْنِي: واتَّبِعْ آثارَ أَهْلِكَ، وَسِرْ خَلْفَهم. وذلك بِأَنْ يَخْرُجوا مِنْ طَريقٍ لَا يُواجِهُونَهْمِ فِيهِ، بَلْ يَسْتَدْبِرونَهم فَلا يَلْقَوْنَهُمْ. أيْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَهْ أَنْ يُقَدِّمَ أَهْلَهُ، ثُمَّ يمْضِي فِي إِثْرِهم. وهَو وَاجِبٌ عَلى كُلِّ أَميرِ جَيْشٍ أَنْ يَتَّبِعَ أَثَرَهم، أَوْ يَأْمُرَ مَنْ يفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِيُلْحِقَ بِهِمْ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهمِ، ويَحْمِلَ المُنْقَطِعَ مِنْهمْ؛ وَذَلِكَ أَحْفَظُ لَهُمْ.
قولُهُ: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} يَعْنِي حَتَّى لا يَرَى مَا نَزَلَ بِقَوْمِهِ مِنَ العَذَابِ فَيْرْتَاعَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: المُرادُ الإِسْراعُ في السَّيْرِ، وَتَرْكُ الالْتِفَاتِ إِلَى وَرَائِهِ، والاهْتِمامُ بِمَا خَلْفَهُ، كَمَا تَقُولُ: امْضِ لِشَأْنِكَ، وَلَا تُعَرِّجْ عَلَى شَيْءٍ، وَقِيلَ: جَعَلَ تَرْكَ الالْتِفاتِ عَلامَةً لِمَنْ يَنْجُو مِنْ آلِ لُوطٍ، وَلِئَلَّا يَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِنْهُم فَيَنَالَهُ العَذَابُ.
قولُهُ: {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما: يَعْنِي إِلَى الشَّامِ. وقِيلَ: إِلى الأُرْدُنِّ، وَقيلَ: إِلَى حَيْثُ يَأْمُرُكُمْ جِبْرِيلُ، وَذَلِكَ أَنَّ جِبْريلَ ـ عَلَيْهِ السلامُ، أَمَرَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى قَرْيَةٍ مُعَيَّنَةٍ، مَا عَمِلَ أَهْلُهَا عَمَلَ قَوْمِ لُوْطٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وتَفْريعٍ، أَوْ رَابِطَةٌ لِجَوابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ. و "أَسْرِ" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على حَذْفِ حرفِ العلَّةِ مِنْ آخِرِهِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى نبيِّ اللهِ لُوطٍ ـ علَيْهِ السَّلامُ، و "بِأَهْلِكَ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ فاعِلِ "أَسْرِ"؛ أَيْ: فَأَسْرِ حَالَةَ كَوْنِكَ مُتَلَبَّسًا بِأَهْلِكَ، و "أهلِكَ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليهِ. و "بِقِطْعٍ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ بمعنى (في)؛ أَيْ: فِي قِطْعٍ، وهو مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَسْرِ"، و "قِطْعٍ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "قِطْعٍ" و " اللَّيْلِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ {وأتيْناكَ} مِنَ الجِمْلةِ التي قبلَها.
قولُهُ: {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} الواوُ: للعطْفِ، و "اتَّبِعْ" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى "لُوط" ـ عَليْهِ السَّلامُ، و "أَدْبارَهم" مفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ علامةُ جَمْعِ المُذكَّرِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ "فَأَسْرِ".
قولُهُ: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "لَا" ناهيةٌ جازِمةٌ، و "يَلْتَفِتْ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مجزومٌ بـ "لا" الناهيَةِ، و "مِنْكُمْ" مِنْ: حرفُ جرٍّ متَعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ "أَحَدٌ" لأَنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْها، و "أَحَدٌ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ أَيْضًا عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ "فَأَسْرِ".
قولُهُ: {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} الوَاوُ: حرفُ عطفٍ، و "امْضُوا" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على حَذْفِ النونِ مِنْ آخِرِهِ، لأنَّ مُضَارِعَهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلٌ، والأَلِفُ الفارقةُ. و "حَيْثُ" ظَرْفُ مَكَانٍ مُبْهَمٍ، مبنيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَرْفِيَّةِ المَكانِيَةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "امْضُوا". وَنَظَرًا لإِبْهامِها فقد تَعَدَّى إِلَيْها الفِعْلُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ جاءَ في الشِّعْرِ تَعَدِّيْهِ إِلَيْهَا بـ "في" كَمَا وَرَدَ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ الفَرَزدَقِ مِنْ قَصِيدَةٍ لهُ طَويلَةٍ:
فَأصْبَحَ في حَيْثُ الْتَقَيْنا شَريدُهُمْ ....... طَليقٌ ومَكْتُوفُ اليَدَيْنِ ومُزْعِفُ
وَزَعَمَ بَعْضُهمْ أَنَّهَا هُنَا ظَرْفُ زَمَانٍ، مُسْتَدِلًّا بِقَولِهِ تعالى: "بقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ"، ثُمَّ قالَ: "وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ"، أَيْ: فِي ذَلِكَ الزَمَانِ. ومِنْهُ قولُ طَرَفَةَ بْنِ العَبْدِ مِنَ البحرِ المَديدِ:
للفَتَى عَقْلٌ يَعيشُ بِهِ ......................... حَيْثُ تَهْدِي سَاقَهُ قَدَمُهْ
كَأَنَّهُ قالَ مُدَّةَ مَشْيِهِ وَتَنَقُّلِهِ. وَهُوَ قولٌ ضَعِيفٌ، فَلَوْ كانَ كَمَا قالَ، لَكانَ التَرْكِيبُ: حَيْثُ أُمِرْتُم، عَلَى أَنَّهُ لَوْ جاءَ التَرْكِيبُ كَذَلك، لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلالَةٌ. و "تُؤْمَرُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِه مِنَ الناصِبِ والجازَمِ، مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ (للمفعول) أو (مُغيَّرُ الصِيغة)، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَباتُ النونِ في آخِرِهِ، لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفع نائبٌ عنْ فَاعِلِهِ، وهذه الجملةُ الفعليَّةُ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ لِـ "حَيْثُ". وجملةُ "امضوا" في محلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جملةِ: "أَسْرِ".
قرأَ الجُمْهورُ: {فَأَسْرِ} بِهَمْزَةِ القَطْعِ عَلَى الأَلِفِ، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ لِلسَّيْرِ فِي اللَّيْلِ إِلَى الصَّبَاحِ، تَقولُ العَرَبَ: أَسْرَى فُلانٌ بأَهلِهِ إِذا ما سَارَ لَيْلًا، وَعَلَى ذَلِكَ قوْلُ الشاعرِ النَّابِغَةِ الذُبيانيِّ:
أَسْرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الجَوْزاءِ سارِيَةٌ ......... تُزجِي الشَّمَالُ عَلَيْهِ جَامِدَ الْبَرَد
وقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ "فاسْرِ" بِهَمْزَةِ وَصْلٍ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ سَرَى.، فَيُقَالُ أَيضًا: "سَرَى" إِذا سارَ ليلًا، وَعَلَيْهِ قوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
سَرَيْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلَّ مَطِيُّهُمْ ........... وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بأرْسَانِ
وَقَرَأَ اليَمَانِيُّ فِيمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةٍ وَغَيْرُهُ: "فَسِرْ" مِنَ السَّيْرِ، وَهَذَا الأَمْرُ بالسُّرَى هوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، أَيْ" يُقالُ لَكَ "فَسِرْ بأَهلِكَ".
قَرَأَ الجمهورُ: {بِقِطْعٍ} بِكسْرِ القَافِ وسُكُونِ الطاءِ. وقَرَأَتْ فِرْقَةٌ "بِقِطَعٍ" بفتْحِ الطَّاءِ.