الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 4
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} أي: وَمَا أَهْلَكْنا أهلَ مدينةٍ إلَّا ولَها قَدَرٌ مَحَدَّدٌ عِنْدَ اللهِ، و "مَّعْلُومٌ" لا يُنْسَى ولا يُغْفَلُ عَنْه حَتَّى يُتَصَوَّرَ التَخَلُّفُ عَنْهُ بِتَقديمٍ أو تَأْخيرٍ. وفي هذا بيانٌ لِسِرِّ تَأْخيرِ عذابَهم، وعَدَمِ انْتِظامِهم في سِلْكِ الأُمَمِ الدَّارِجةِ في تَعْجيلِ عذابِها. وقَدْ شُبِّهَ القَدَرُ بِالْكِتَابِ لأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَلا النَّقْصَ فقدْ كُتِبَ وانتهى الأمرُ كما قال ـ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: ((رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُحُفُ)). وفيه تَهْدِيدٌ لهم وَوَعِيدٌ مُؤَيَّدٍ بِتَنْظِيرِهِمْ بِالسَّالِفِينَ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ أمثالِهم، أَيْ: مَا أَهْلَكْنَا مِنْ قبلُ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ إِلَّا وَقَدْ مَتَّعْنَاهَا زَمَنًا قدَّرْناهُ لها، وَكَانَ لِهَلَاكِهَا أَجَلٌ معلومٌ لَنَا، وَوَقْتٌ مَحْدُودٌ قَدَّرْناهُ في سابِقِ عِلْمِنا، فَهِيَ مُمَتَّعَةٌ قَبْلَ حُلُولِهِ بها، مَأْخُوذَةٌ بِهِ عِنْدَما يَنْزِلُ في ديارِها.
قولُهُ تَعَالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، و "ما" نافيَةٌ لا عَمَلَ لها، و "أَهْلَكْنَا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ الرَّفعِ "نا" وهي ضميرُ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلَّ رفعِ فاعِلِهِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ زائدٌ، و "قَرْيَةٍ" مجرورٌ لفظًا بحرفِ الجرِّ الزائدِ، مَنْصوبٌ محلًّا على أَنَّهُ مفعولُ "أَهْلَكْنَا".
قولُهُ: {إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} إِلَّا: أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ، و "وَلَهَا" الواوُ: واوُ الحالِ، و "لها" اللامُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بخَبَرٍ مُقَدَّمٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "كِتَابٌ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، و "مَعْلُومٌ" صِفَةُ "كِتَابٌ" مرفوعةٌ مِثْلُهُ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ "قَرْيَةٍ"، وسَوَّغَ مَجِيءَ الحَالِ مِنْها دُخُولُ "مِنْ" الزائدِةِ عَلَيْها، والتَقْديرُ: وَمَا أَهْلَكْنَا قَرْيَةً مِنَ القُرَى فِي حالٍ مِنَ الأَحْوالِ إِلَّا حَالَ كَوْنِ أَجَلٍ مَعْلُومٍ لِهَلاكِهَا، واقْتِرَانُهَا بِالْوَاوِ فَهِيَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً فَإِنَّ وُقُوعَه فِي سِيَاقِ النَّفْيِ سَوَّغَ مَجِيءَ الْحَالِ مِنْهُ كَمَا سَوَّغَ الْعُمُومُ صِحَّةَ الْإِخْبَارِ عَنِ النَّكِرَةِ، وهذا هوَ الظاهرُ، لأن الواو هي واوُ الحالِ، وهذِهِ الحالُ لازمةٌ. ويَجوزُ أَنْ تكونَ الواوُ مَزيدَةً، يؤيِّدُهُ قراءةُ ابْنِ أَبي عَبْلةَ "إلَّا لَهَا" بإسقاطِ الواوِ.
وقيلَ يجوزُ أَنْ تكونَ الواوُ داخِلةً على الجملةِ الواقعةِ صِفَةً للتأكيدِ، كما في قولِهِ تعالى مِنْ سُورَةِ الشعراءِ: {وَما أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} الآية: 208، وإنَّما توسَّطَتْ لِتَأْكيدِ لُصوقِ الصِفَةِ بالمَوْصوفِ، كقولِك: (وجاءَني زَيْدٌ عَلَيْهِ ثوبُهُ، و جاءني وعَليه ثوبُه). وقد رَدَّ ذلك الشيخُ أبو حيَّانَ قائلًا: ولا نَعْلَمُ أَحَدًا قالَهُ مِنَ النَّحْويين، وهو مَبنيٌّ على جوازِ أنَّ ما بعدَ (إلَّا) يكونُ صِفةً، وقدْ مَنَعُوا ذَلكَ. قالَ الأَخفَشُ: لا يُفْصَل بَيْنَ الصِفَةِ والمَوْصوفِ بـ (إلَّا). ثمَّ قالَ: وأَمَّا نَحْوُ: ما جاءني رَجُلٌ إِلَّا راكبٌ، على تقديرِ: إِلَّا رجلٌ راكبٌ، وفيهِ قُبْحٌ لِجَعْلِكَ الصفةَ كالاسْم». وقالَ أبو عَليٍّ الفارسيُّ: تقولُ: ما مَرَرْتُ بأَحَدٍ إِلَّا قائمًا، فـ "قائمًا" حالٌ، ولا تقولُ: إِلَّا قائمٍ، لأنَّ "إلاَّ" لا تَعتَرِضُ بَيْنَ الصِفَةِ والمَوْصوفِ. وقالَ ابْنُ مَالكٍ في ذلك: إِنَّهُ مَذْهَبٌ لا يُعْرَفُ لِبَصْرِيٍّ ولا كُوفيٍّ، فلا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وأَبْطَلَ القولَ بأَنَّ الواوَ توسَّطتْ لِتَأْكيدِ لُصُوقِ الصِفَةِ بالمَوصوفِ.
قالَ السمينُ الحلبِيُّ: إنَّ الصِفَةَ كالحَالِ في المَعْنَى، وإِنْ كانَ بَيْنَهُما فرقٌ مِنْ بعضِ الوُجوهِ، فَكَمَا أَنَّ الواوَ تَدْخُلُ عَلَى الجُمْلَةِ الواقِعَةِ حالًا كَذلك تَدْخلُ عليها واقعةً صِفَةً. ويُقوِّيهِ قولُهُ تَعَالى منْ سورةِ الشعراءِ: {إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} الآية: 208، كما يُقَوِّيهِ قراءةُ ابْنِ أبي عَبْلَةَ. والفرقُ بينَهُما أَنَّ دخولَ الواوِ يَقْلِبُ حالَ مَا بعدَها إلى الابْتِداءِ، وخُروجُها مِنْهُ يَدُلُّ عَلى أَنَّ مَا بَعْدَها في مَوْضِعِ حالٍ. وقالَ مُنذِرُ بْنُ سعيدٍ: هذِهِ الواوُ هِيَ التي تُعْطي أَنَّ الحالةَ التي بعدَها في اللفظِ هيَ ـ في الزَّمَنِ، قَبْلَ الحالةِ التي قبلَ الواوِ، ومِنْهُ قولُهُ تَعالى في سورةِ الزمر: {حَتَّى إِذَا جَاؤوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} الآية: 73.
قرأَ العامَّةُ: {إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ}، وقرأَ ابنُ أبي عبلةَ "إلَّا لها كتابٌ معلومٌ" بحذفِ الواوِ، وقد تقدَّمَ توجيهُ القراءتين.