وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ
(20)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} يَمْتَنُّ عَلَيْنَا ـ سُبْحَانَهُ
بِأَنْ جَعَلَ لَنَا في الأَرْضِ والجبالِ وَسَائِلَ للعَيْشِ، أَيْ: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِي الأَرْضِ والجِبَالِ مَا تَتَعَيَّشونَ بِهِ مِنْ مَلابِسَ وَمَطَاعِمَ ومَشَارِبَ بها تَعِيشونَ، ومِنْهُ قولُ جَريرٍ:
تُكَلِّفُنِي مَعِيشَةَ آلِ زَيْدٍ ...................... وَمَنْ لِي بِالْمُرَقَّقِ وَالصِّنَابِ
وكانَ اشْتَرَى جارِيَةً مِنْ رَجُلٍ يُقالُ لَهُ زَيْد مِنْ أَهْلِ اليَمَامَةِ، فَفَرَكَتْ جَريرًا، وجَعَلَتْ تَحِنُّ إِلَى زَيْدٍ، فانْتَهَزَ الفَرَزْدَقُ الفُرْصَةَ فقالَ يَهْجُوهُ:
فإنْ تَفْرِكْكَ عِلْجَةُ آلِ زَيْدٍ ................... ويُعْوِزْكَ المُرَقَّقُ والصِّنَابُ
فقِدْمًا كانَ عَيْشُ أَبيكَ مُرًّا ................ يَعيشُ بِمَا تَعيشُ بِهِ الكِلابُ
المُرَقَّقُ الخُبْزُ الرَّقيقُ. والصِّنابُ: الخَرْدَلُ المَضْروبُ بالزّبيبِ. وَقِيلَ: إِنَّ المرادَ بِـ "وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ" التَّصَرُّفُ فِي أَسْبَابِ الرِّزْقِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ. وهوَ الظَاهِرُ. و "مَعَايِشَ" جَمْعُ مَعِيشَةٍ، وَبَعْدَ الْأَلْفِ يَاءٌ تَحْتِيَّةٌ لَا هَمْزَةٌ، والأَصْلُ: (مَعْيَشَةٌ) عَلَى وَزْنِ (مَفْعَلَةٍ) بِتَحْرِيكِ الْيَاءِ.
قولُهُ: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} أيْ أَنَّ اللهَ تعالى هُوَ الذي يَرْزُقُ الْخَادِمَ وَالْمَخْدُومَ، وَالْمَالِكَ والْمَمْلُوكَ، الَّذِينَ قَالَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} الآية: 31، مِنْ سُورةِ الإسْراءِ، فإنَّهُ سُبحانَهُ أَثْبَتَ أنَّ رِزْقَ الجميعِ عَليهِ. وَقَال الْكَلْبِيِّ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: "وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ" الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازقينَ" قَالَ: الدَّوَابَّ والأَنْعَامَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مَنْصُور فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازقينَ" قَالَ: الْوَحْش. فيجوزُ أَنْ يُرادَ بـ "مَنْ" العُقلاءُ، أَي: ومَنْ لستُمْ له برازقين مِنْ مَواليكم الذين تزعمونَ أَنَّكم تَرْزقونَهُ، ويجوزُ أَنْ يُرادَ بها غيرُ العقلاءِ، مِنَ الدوابِّ، وإِنْ كنتم تَزْعمون أَنَّكم تَرْزُقونَهم، وإِلى كلٍّ مِنَ المَعْنَيَيْنِ ذَهَبَ جماعةٌ مِنَ المُفَسِّرينَ. ويَجوزُ أَنْ يُرادَ بها النَوعان جميعًا، وهوَ الصَّحِيحُ لأنَّ الآيَةَ تَعُمُّ الجميعَ وقد قَالَ تعالى في سُورَةِ هُود: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها} الآية: 6، فلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْأَطْعِمَةَ وَالْأَشْرِبَةَ، وَأَعْطَى الْقُوَّةَ الْغَاذِيَةَ وَالْهَاضِمَةَ، لَما حَصَلَ رِزْقٌ لِأَحَدٍ.
قولُهُ تَعَالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} الوَاوُ: للعطفِ، و "جَعَلْنَا" فعْلٌ ماضٍ بِمَعْنَى وَضَعْنَا، مَعْطُوفٌ عَلَى (بَسْطْنَا الأَرْضَ) المَحذوف، وَهوَ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نفسَهُ، وهو ضميرٌ متَّصلٌ بِه مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلِهِ، و "لَكُمْ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جعلنا"، و كافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "فِيهَا" في: حرفُ جَرٍّ متعلقٌ بِحالٍ مِنْ "مَعَايِشَ"، و "مَعَايِشَ" مفعولٌ بِهِ منصوبِ.
قولُهُ: {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} الوَاوُ: حرفُ عطْفٍ، و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ بمعنى "الذي" مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى "مَعَايِشَ" أَيْ: وَجَعَلْنَا لَكمْ فِيها مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ. ويجوزُ أَنَّهُ مَنْصوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أيْ: وأَعَشْنا مَنْ لَسْتُمْ لَهُمْ بِرَازِقينَ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مَنْصوبًا عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ "لكم". ويجوزُ أَنْ يكونَ محلُّهُ الجَرَّ عَطْفًا عَلَى كافِ الخطابِ المجرورِ باللامِ، وقد جَازَ ذَلِكَ مِنْ غيرِ إِعادَةِ الجَارِّ عَلَى رَأْيِ الكُوفِيِّينَ وبَعْضِ البَصْرِيِّينَ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مَرْفُوعًا بالابْتِداءِ، وخَبَرُهُ مَحْذوفٌ. أَيْ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ جَعَلْنا لَهُ فيها مَعَايِشَ، وقد سُمِعَ مِنَ العَرَبِ قولُهم: ضَرَبْتُ زَيْدًا وعَمْروٌ، بِرَفْعِ "عَمْرو" عَلى الابتداءِ، والخَبَرُ محذوفٌ، أَيْ: وَعَمْرٌو ضَرَبْتُهُ. و "لَسْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتَّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ متحرِّكٍ هوَ التاءُ، وهِيَ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ رفعِ اسْمِ "ليس" وقد حُذِفتْ منهُ الياءُ الساكنةُ لالتقاءِ الساكِنَيْنِ، والميمُ للجمعِ المذَكَّرِ. و "لَهُ" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "بِرَازِقِينَ" الباءُ: حرفُ جرٍّ زَائدٍ، و "رَازِقِينَ" مجرورٌ بها لَفْظًا منصوبٌ محلًا خَبَرُ (ليس)، وفي الحالينِ الياءُ علامةُ الجرِّ والنَّصْبِ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوين في الاسْمِ المُفْرَدِ.