وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} المُخاطَبُ هُوَ رَسُولُ اللهِ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، والضَّيْفُ: هُوَ المائلُ لِغَيْرِهِ لِقِرًى أَوِ اسْتِئْنَاسٍ، وَسُمِّيَ ضَيْفًا لِإِضَافَتِهِ إِلَيْكَ وَنُزُولِهِ عَلَيْكَ. وَيُسَمَّى أَيْضًا المُنْضَوِي، لأَنَّهُ يَنْضَوِي إِلَى غَيْرِهِ طَلَبًا للأَمْنِ والقِرَى. والمُنْضَوِي: هُوَ المائلُ ناحِيَةَ الضَّوْءِ. فقد كانَ منْ عادةِ كُرَمَاءِ العَرَبِ وأَهْلِ السَّمَاحَةِ مِنْهم؛ أَنْ يوقدوا النَّارَ في الليلِ لِيَرَاها مَنْ يَسِيرُ في الطَّريقِ فَيَهْتَدِي إِلَيْهمْ، وما كان كرمُهمْ لِيقْتَصِرَ عَلَى مَنْ يَطْرُقونَ بَابَهم. فهذا حاتمٌ الطائيُّ يقولُ للعَبْدٍ لَهُ:
أَوْقِدِ النَّارَ فِإنَّ الليْلَ لَيْلَ قُرّْ ................. والريحُ يَا غُلامُ رِيحُ صِرّْ
إِنْ جَلَبَتْ لَنَا ضَيْفًا فَأَنْتَ حُرّْ
وكلمةُ "ضَيْفٍ" لَفْظُ يُطْلَقُ عَلَى المُفْرَدِ والمُثنَّى والجَمْعِ، ذُكْرانًا كانوا أَوْ إِنَاثًا، كَ "الزَّوْرِ" و "السَّفْرِ"، فتَقولُ: جاءَني ضَيْفٌ فَأَكْرَمْتُهُ، وجاءَني ضَيْفٌ فَأَكْرَمْتُها، وجاءَني ضَيْفٌ فَأَكْرَمْتُهُما، وَجاءَني ضَيفٌ فَأَكْرَمْتُهم، وجاءَني ضَيْفٌ فَأَكْرَمْتُهُنَّ وهَكَذا، ويَجُوزُ فيها التَثْنِيَةُ كذلكَ والجَمْعُ، فتَقولُ: ضِيْفانِ، وضُيُوفٌ، وأَضْيافٌ للتقليلِ، والضَّيْفُ فِي الأَصْلِ مَصْدَرُ ضَافَ يَضِيفُ. يقالُ: ضَافَهُ وَأَضَافَهُ إِذا أَمَالَهُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الشريف: ((حِينَ تَضِيفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ))، وَضَيْفُوفَةُ السَّهْمِ، عُدُولُهُ عَنِ الهَدَفِ أَوِ الرِّمْيَةِ. وَالْإِضَافَةُ النَّحْوِيَّةُ معلومةٌ.
أَمَّا ضَيْفُ خَليلِ الرَّحْمَنِ سيِّدِنا إبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، اللذينَ هُمْ موضوعُ الحديثِ في هَذِهِ الآيةِ الكريمةِ فَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الكِرامُ، الَّذِينَ تَشَكَّلُوا بِشَكْلِ أُنَاسٍ غُرَبَاء مَارِّينَ بِبَيْتِهِ، وهمْ جِبْريلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مَعَ أَحَدَ عَشَرَ مَلَكًا، أَرْسَلَهُمُ اللهُ لِيُبَشِّروهُ بِالوَلَدِ ولِيُهْلِكُوا قَوْمَ نبيِّ اللهِ لُوطٍ ـ عليهِ السَّلامُ، وَقَدْ تقدَّمتْ قِصَّتُهم في سورةِ (هود) مفصَّلةً لمنْ أرادَ الاسْتِزَادَةَ.
وكانَ سَيِّدُنا إِبْرَاهيمُ ـ عليهِ السلامُ، مُشْتَهرًا بِالكَرَمِ حَتَّى كُنِّيَ أَبا الضِّيفانِ، وَكَانَ لِقَصْرِهِ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ لِكَيْلَا يَفُوتَهُ أَحَدٌ فإذا صُنِعَ لَهُ طعامٌ، ولمْ يكنْ عندِهِ ضيفٌ يشارِكُهُ طعامَهُ خَرَجَ يَلْتَمِسُ شَرِيكًا لَهُ فيهِ.
قولُهُ: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "نَبِّئْهُمْ" فِعْل أَمرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ، والهاء: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ أَوَّل، والميمُ علامةُ جمعِ المُذَكَّرِ، و "عَنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِهِ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ المَفْعولِ الثاني، وَ "ضَيْفِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، و "إِبْرَاهِيمَ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وعلامةُ جرِّهِ الفتحةُ نيابةً عَنِ الكَسْرةِ لأَنَّه ممنوعٌ منَ الصرفِ بالعلَميَّةِ والعُجْمَةِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {نَبِّئْ} الأُولى على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لَا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.