مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ
(5)
قولُهُ ـ جَلَّ وعَلا: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا: أيْ ما تَفُوتُ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ المُهْلَكَةِ وغَيْرِهم أَجَلَهَا المَضْروبَ لَهَا، المَكْتوبَ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ لأَنَّها تُعْدَمُ قَبْلَ حُلُولِهِ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالسَّبْقِ. فَالآجَالُ مَعْلومَةٌ، والأَحْوالُ مَقْسُومَةٌ، والمَشِيئَةُ في الكائناتِ ماضِيَةٌ، وهذِهِ الجملةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ {وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ لِبَيَانِ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها. فَإنَّ فائِدَةَ التَّحْدِيدِ عَدِمُ الْمُجَاوَزَةِ بَدْءً وِنَهَايَةً. ومعنى "يَسْتَأْخِرُونَ" يَتَأَخَّرُونَ. فَإنَّ السِّينَ هنا وَالتَّاءَ لِلتَّأْكِيدِ. و "أَجَلَهَا" ما ضَرَبَ لَهَا مِنْ الوَقْتِ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: يُريدُ ما تَتَقَدَّمُ الوَقْتَ الذي وُقِّتَ لَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنْ جَريرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ" قَالَ: نَرَى أَنَّهُ إِذا حَضَرَ أَجَلُهُ فَإِنَّهُ لَا يُؤَخَّرُ سَاعَةً وَلَا يُقَدَّمُ. وَأَمَّا مَا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَإِنَّ اللهَ يُؤَخِّرُ مَا شَاءَ وَيُقَدِّمُ مَا شَاءَ. وهَذَا كَقَوْلِهِ تعال في سورةِ الأعراف: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} الآية: 34. وهو كقولِكَ: سَبَقَ زَيْدٌ عَمْرًا، إذا جازَهُ وخَلَّفَهُ ورَاءَهُ فَاسْتَأْخَرَ. وأَمَّا إِذا كانَ الاستئخارُ واقِعًا عَلَى الزَمَانِ فإنَّه يكونُ بالعَكْسِ مِنْ هَذا؛ كَمَا لو قُلْتَ: سَبَقَ فُلانٌ الحَوْلَ وعامَ كَذَا وكذا، فإنَّ المَعنى: مَضَى قَبْلَ إِتْيانِهِ ولَمْ يَبْلُغَهُ، وهو المعنى المقصودُ بالآيَةِ. فقولُهُ ـ سُبْحانَهُ: "مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا" أَيْ تُقَصِّرُ عَنْهُ فَلا تَبْلُغُهُ؛ وذلكَ بِأَنْ تَهْلِكَ قَبْلَ بُلُوغِ الأَجَلِ، و "وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ" أَيْ مَا يَتَجاوَزُونَهُ وما يَتَأَخَّرُ الأَجَلُ عَنْهم، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تعالى: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} مَا: نافيةٌ لا عَمَلَ لَهَا، و "تَسْبِقُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتَجرُّدِهِ منَ الناصِبِ والجازِمِ، و "مِنْ" حرفُ جرٍّ زائدٌ لاسْتِغْراقِ الجِنْسِ مؤكِّدةٌ للنفيِ، و "أُمَّةٍ" مَجرورٌ لفظًا بحرفِ الجرِّ الزائدِ، مَرفوعٌ مَحَلًّا فاعِلُ "تسبِقُ". و "أَجَلَهَا" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ، وهوَ مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. والجملة مُسْتأنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}: حرفُ عطْفٍ، و "ما" كسابقتِها. و "يَسْتَأْخِرُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النونِ في آخِرِهِ، لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، وحَذَفَ مُتَعَلِّقَ "يَسْتأخِرُون" المُقَدَّرَ بـ "عنه" للدلالةِ عَلَيهِ، ولِوُقوعِهِ فاصلةً. وحَمَلَ عَلى لفظِ "أُمَّةٍ" في قولِهِ "أجلَها" فأَفْردَ وأَنَّثَ. وَعَلى مَعْنَاهَا في قَوْلِهِ: "وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ" فَجَمَعَ وَذَكَّرَ.