الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 33
قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ (33)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} قالَ إِبْلِيسُ في مَعْرِضِ رَدِّهِ على اللهِ تَعَالَى: لا يَصِحُّ مِنِّي، ولا يَلِيقُ بِي، ويُنَافي حَالِي أَنْ أَسْجُدَ لِبَشَرٍ جِسْمانِيٍّ كَثيفٍ، وأَنَا مَلَكٌ رُوحانِيٌّ لطيفٌ، نافيًا أَنْ يَحصُلَ مِنْهُ السُّجُودُ، ناسِيًا أَنَّ هَذَا السُّجُودَ إنَّما هُوَ في الحَقيقَةِ للهِ المَعْبُودِ، وجاءَتِ اللَّامُ مُؤَكِّدَةً لِهَذا النَفْيِ. فاللَّامُ لَامُ الْجُحُودِ، وَالْمَعْنَى: لَا يُنَاسِبُ حَالِي السُّجُودَ لَهُ. وَفِي الْبَقَرَةِ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ لَهُ وَهِيَ الِاسْتِكْبَارُ، فقالَ: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} الآية: (34)، مِنْ سورةِ البَقَرَةِ: 34، أَيْ: رَأَى نَفْسَهُ أَكْبَرَ مِنْ أَنْ يَسْجُدَ. وَفِي الْأَعْرَافِ صَرَّحَ بِجِهَةِ الِاسْتِكْبَارِ، وَهِيَ ادِّعَاءُ الْخَيْرِيَّةِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ بِادِّعَاءِ الْمَادَّةِ الْمَخْلُوقِ مِنْهَا كُلٌّ مِنْهُمَا، قالَ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟. قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} الآيتانِ: (12) و (13)، منْ سورةِ الأَعْرافِ. وَهُنَا نَبَّهَ عَلَى مَادَّةِ آدَمَ وَحْدَهُ، قال: "مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ" أَيْ: مِنْ طِينٍ أَسْوَدِ اللَّوْنِ نَتِنِ الرائحَةِ، وهوَ أَخَسُّ العَنَاصِرِ، بَيْنَما خَلَقْتَني مِنْ نَارٍ وَهِيَ أَشْرَفُ هذهِ العناصِرِ، فَانْتَقَصَ منْ قَدْرِ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، باعْتِبارِ النَّوْعِ والأَصْلِ، ونَسِيَ أَنَّ التَفْضِيلَ والقَدْرَ لِمَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَ قَدْرَهُ، فَإِذا شاءَ وَضَعَهُ. لقدْ غَفِلَ هذا اللَّعينُ عَنِ الكَمَالاتِ التي خَصَّ اللهُ بِها آدَمَ ـ عليهِ السَّلامُ، ومِنْها: أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، خَلَقَهُ بِيَدِيْهِ بِلا وَاسِطَةٍ، أَيْ: بِيَدِ القُدْرَةِ والحِكْمَةِ، بِخِلافِ غَيْرِهِ مِنَ المخلوقاتِ، ومنها أَنَّهُ ـ تعالى، خلَقَهُ على صورَتِهِ، فكانَ الأَكْمَلَ ما بَيْنَ المخلوقاتِ جميعِها، ومِنْها: أَنَّهُ خَصَّهُ بالعُلومِ التي لَمْ يَخُصَّ بها غَيْرَهُ، حَتَّى ولا المَلائكَةَ المُقَرَّبينَ، ومِنْها: أَنَّهُ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ المُضافَةِ إِلَى نَفْسِهِ المُقدَّسةِ، ومِنْها: أَنَّهُ جَعَلَهُ خَلِيفَةً عَنْهُ في أَرْضِهِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الخَوَاصِّ والميزاتِ التي شَرَّفَهُ بِهَا، حتى اسْتَحَقَّ سُجُودَ الخلقِ جميعًا تعظيمًا لهذا الخلقِ وخضوعًا لِهَذَا المَخْلوقِ المُعَظَّمِ. قالَ أَبُو الحَسَنِ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ البَلْخِيُّ: فَأَوَّلُ مَا خُلِقَ مِنْ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَجْبُ الذَّنَبِ، ثُمَّ رُكِّبَ فِيهِ سَائرُ خَلْقِهِ، وآخِرُ ما خَلَقَ مِنْه أَظْفَارُهُ، وَتَأْكُلُ الأَرْضُ عِظامَ المَيْتِ كُلَّها، غَيْرَ عَجْبِ الذَّنَبِ، إلَّا عِظَامَ الأَنْبِياءِ ـ عَلَيِهِمُ السَّلامُ، فإِنَّها لا تَأْكُلُها الأَرْضُ، وفي العَجْبِ يُرَكَّبُ بَنُو آدَمَ يَوْمَ القِيامَةِ. وفي الصَّحيحِ، من حديثِ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: ((كُلُّ جَسَدَ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إِلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ، ومِنْهُ يُرَكَّبُ)) صَحيح البُخَاري بِرَقم: (4935)، وصَحِيح مُسْلمٍ بِرَقم: (2955).
ولو أَنَّ العِنَايَةَ الإلهيَّةَ أَدْرَكَتْ إِبْلِيسَ اللَّعينَ لَقَالَ: أَنْتَ يا رَبُّ مَنْ مَنَعَني مِنَ السُّجودِ، حَيْثُ أَشْقَيْتَني، وبِقَهْرِكَ أَغْوَيْتَني، وَلَوْ أَنَّكَ رَحِمْتَني لَهَدَيْتَنِي، وَفي كَنَفِ عِصْمَتِكَ آوَيْتَني. ولَكِنْ أَدْرَكَهُ الحِرْمانُ فَقالَ مَا قَالَ.
ولَيْسَ إِباءَةُ إِبْليسَ السُّجُودَ لآدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، هيَ نَفْسَ كُفْرِهِ، بَلْ هِيَ مُجَرَّدُ مَعْصِيَةٍ ارْتَكَبها، يُمْكِنُ لَهُ التَوْبةُ مِنْها، والرُّجُوعُ عَنْها، وتَدارُكُ التَقْصيرِ فِيها، وإِنَّمَا كُفْرُهُ في أَنَّهُ نَسَبَ الحَيْفَ، وَالجَوْرَ، والظُلْمَ إِلَى اللهِ تَعَالى بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ هَذَا، وتَعْلِيلِهِ لِعَدَمِ سُجُودِهِ لآدَمَ، إِذْ أَنَّ مُقْتَضَى هَذَا التَعْليلِ أَنَّ اللهَ تَعَالى خَلَقَ خَلْقًا مَفْضُولًا، وكَلَّفَ خَلْقًا هُوَ أَفْضَل مِنْهُ أَنْ يَذِلَّ لَهُ بِالسُّجُودِ، ويَخْضَعَ لَهُ تَعْظيمًا لِخَلْقِهِ وإعلاءً لِشَأْنِهِ، فَكَأَنَّهُ قالَ لِمَنْ خَلَقَهُ: وهَذَا جَوْرٌ مِنْكَ يا رَبُّ وظُلْمٌ وحَيْفٌ، فنَسَبَ إِلَيْهِ تعالى مَا حَرَّمَهُ على نفْسِهِ، وما حَرَّمَهُ على عبادِهِ، وما هو مستحيلٌ في حقِّهِ ـ تَبَارَكَ وتعالى. وفي هَذا الرَدِّ الوافي دَليلٌ واضِحٌ عَلَى رُسوخِهِ إبليسَ في عِصْيانِهِ أَمْرَ مَولاهُ ورَبِّهِ، وعَدَمِ رِضَاهُ بِحُكْمِهِ، وسُوءِ أَدَبِهِ مَعَ خَالِقِهِ ـ سُبْحانَهُ وتعالى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ القصَّةِ مُفَصَّلًا عَنْدَ تَفْسِيرِ الآيَةِ: 28، السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبارَكَةِ، وفيما قَبْلَها مِنْ سُورَتَيْ البَقَرَةِ والأَعْرافِ، وَذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الحادِثَةِ.
قولُهُ تَعَالَى: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا يَعودُ عَلى {إبليسَ}. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "لَمْ" حرفٌ جازِمٌ، و "أَكُنْ" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَجْزومٌ، بِـ "لم"، واسْمُها ضَميرٌ مُسْتترٌ فيها وُجوبًا تقديرُهُ (أنا) يَعُودُ عَلَى {إبليس}، و "لِأَسْجُدَ" {اللامُ}: حَرْفُ جَرٍّ وجُحُودٍ، و "أَسْجُدَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا بَعْدَ لامِ الجُحُودِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنا) يَعُودُ عَلَى {إبليسَ}، و "لِبَشَرٍ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَسْجُدَ"، و "بَشَرٍ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِلامِ الجُحُودِ، والتقديرُ: لَمْ أَكُنْ لِسُجُودِي لِبَشَرٍ، وهذا الجارُّ والمَجرورُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ خَبَرِ "أَكُن" والتقديرُ: لَمْ أَكُنْ مُريدًا لِسُجُودي لِبَشَرٍ، وهذا عَلَى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ، وقد تقدَّمَ، وجُمْلَةُ "أَكُنْ" في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القَوْلِ لِـ "قَالَ".
قولُهُ: {خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} خَلَقْتَهُ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وَهِيَ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ في مَحَلِّ رَفْعِ فاعِلِهِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفعولٌ بِهِ، و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَلَقْتَ"، و "صَلْصَالٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، وهذه الجُملةُ الفِعليَّةُ في مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةٌ لِـ "بَشَرٍ"، و "مِنْ" حرفُ جرٍّ متعلَّقٌ أَيضًا بصِفَةٍ لِـ "صَلْصَالٍ"، و "حَمَأٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، و "مَسْنُونٍ" صِفَةٌ لِـ "حَمَأٍ" مجرورةٍ مِثْلهُ.