ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
(3)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} ذَرْهم: المَعْنَى اتْرُكْهم. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعالى: "ذَرْهُمْ" قَالَ: خَلِّ عَنْهُم. وَفعلُ الأمرِ هذا مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ وَهي قِلَّةُ جَدْوَى الْحِرْصِ عَلَى إِصْلَاحِهِمْ. وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْإِذْنِ بِمُتَارَكَتِهِمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَأْمُورٌ بِالدَّوَامِ عَلَى دُعَائِهِمْ. كما فِي قَوْلِهِ تَعالى مِنْ سُورةِ الأَنْعامِ: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ} الآية: 70. فَمَا أَمَرَهُ بِتَرْكِهِمْ إِلَّا وَقَدْ أَعْقَبَهُ بِأَمْرِهِ بِالتَّذْكِيرِ بِالْقُرْآنِ فَعُلِمَ أَنَّ التَّرْكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي عَدَمِ الرَّجَاءِ فِي صَلَاحِهِمْ. وَمثلُهُ قَوْلُ كَبْشَةَ أُخْتِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ تَسْتَنْهِضُه لِيأْخُذِ بِثَأْرِ أَخيهِ عبدِ اللهِ:
وَدَعْ عَنْكَ عَمْرًا إِنَّ عَمْرًا مُسَالِمٌ ...... وَهَلْ بَطْنُ عَمْرٍو غَيْرُ شِبْرٍ لِمَطْعَمِ
وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ هَذَا الْفِعْلُ وَمَا يُرَادُ بِهِ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْإِعَانَةِ أَوْ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ الْوَسَاطَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في سورةِ المُدَّثِّر: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} الآية: 11، وَكقَوْلِهِ في سُورَةِ المُزَّمِّلِ: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} الآية: 11.
وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ هذا الأمرُ فِي التَّرْكِ الْمَجَازِيِّ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِ مَنْزِلَةَ الْمُتَلَبِّسِ بِالضِّدِّ كَقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:
دَعُونِي أَنُحْ مِنْ قَبْلِ نَوْحِ الْحَمَائِمِ .......... وَلَا تَجْعَلُونِي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ
إِذْ مِثْلُ هَذَا يُقَالُ عِنْدَ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ عَنْ صَلَاحِ الْمَرْءِ. وَقَدْ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ التَّرْكِ لِأَنَّ الْفِعْلَ نَزَلَ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُتَعَلِّقٍ، إِذِ الْمَعْنِيُّ بِهِ تَرْكُ الِاشْتِغَالِ بِهِمْ وَالْبُعْدُ عَنْهُمْ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ فِعْلُ التَّرْكِ إِلَى ذَوَاتِهِمْ لِيَدُلَّ عَلَى الْيَأْسِ مِنْهُمْ. فإنَّ اسْتِمْرَارَهُمْ عَلَى غُلَوَائِهِمْ وَإِعْرَاضُهم عَمَّا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنَ الْكَمَالِ النَّفْسِيِّ هُوَ أَكْثَرُ حَالِهِمْ، فقد رَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ حياةً كَحَيَاةِ الْأَنْعَامِ، بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الإسلام فَاقْتَصَروا عَلَى اللَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ، ولذلك أَمَرَ اللهُ تعالى رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنْ يُنبِّهَهُمْ إلى أَنَّ حَيَاتَهُمْ هذه كحَيَاةِ البَهَائمِ التي يُعَيِّرُ بِها بعضُهم بعضًا كمَا قالَ كَمَا الْحُطَيْئَةُ يومًا يَهْجو الصَحابيَّ الجليلَ الزِبْرقانَ بْنَ بدرٍ ـ رَضيَ اللهُ تَعَالى عنهُ، بعدَما أَكرمَه غايةَ الإكرامِ، فهجاهُ بِثَمَنٍ أَخَذَهُ مِنْ أَعداءِ الزبرقانِ لا باسْتِحْقاقِ الزِّبرِقانِ لِمِثْلِ هَذا الهِجاءِ:
دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَنْهَضْ لِبُغْيَتِهَا ........ وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الكاسي
فإنَّ هؤلاءِ المُشْركينَ مُنْغَمِسونَ فِيمَا يَتَعَيَّرُونَ بِهِ فِي أَعْمَالِهِمْ غيرَ مُبالينَ فيما ينتظرُهم وما يَؤولُ إِلَيْهِ أَمرُهم كما قَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 12، مِنْ سُورِة مُحمَّدٍ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ}. فالآيةُ نَزَلَتْ إذًا في المُشْرِكينَ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "ذَرْهم يَأْكُلُوا ويَتَمَتَّعوا" قَالَ: هَؤُلَاءِ الْكَفَرَة.
قولُهُ: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} فَإِنَّ اشْتِغالَ هؤلاءِ الكَفَرةِ بِشَهَواتِهم، وانْغِماسَهم في مَلاذِّهم، سَيُؤَدِّي بِهم إِلى هَلاكِهم وذَهابِ رِيحِهم في الدنيا قبلَ الآخرةِ. فقد أَخْرَجَ الإمامُ أَحْمدُ فِي الزُّهْدِ: (ص:10)، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ: (7/332، رقم: 7650)، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ: (7/427 رقم: 10844)، والخطيبُ البغداديُّ: (7/186). مِنْ حديثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا رَفَعَهُ، قَالَ: ((صَلَاحُ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ، وَيهْلِكُ آخِرُهَا بالبُخْلِ والأَمَلِ)).
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخِدْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَرَسَ عُودًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَآخَرَ إِلَى جَنْبِهِ، وَآخَرَ بَعْدَهُ، قَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟. قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((فَإِنَّ هَذَا الإِنْسانَ، وَهَذَا أَجَلُهُ، وَهَذَا أَمَلُهُ، فَيَتَعَاطَى الأَمَلَ فَيَخْتَلِجُهُ الْأَجَلُ دُونَ ذَلِكَ)). مُسْنَدُ الإمامِ أَحمَد: (3/17، برقم: 11148). وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحاقَ، عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَطَّ خُطُوطًا، وَخَطَّ خَطًّا مِنْهَا نَاحَيَةً فَقَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا هَذا؟، هَذَا مَثَلُ ابْنِ آدَمَ، وَذَاكَ الْخَطُّ الأَمَلُ فَبَيْنَمَا هُوَ يُؤَمَّلُ، إِذْ جَاءَهُ الْمَوْتُ)). جِزْءُ حَنبَلِ بْنِ إِسْحاق: (ص: 112). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي (ذَمّ الأَمَلَ) وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مُثِّلَ الإِنسانُ والأَمَلُ وَالْأَجَلُ، فَمُثِّلَ الْأَجَلُ إِلَى جَانِبِهِ، والأَمَلُ أَمَامَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَطْلُبُ الأَمَلَ إِذْ أَتَاهُ الْأَجَلُ فاخْتَلَجَهُ)). وأَخرَجهُ الديلميُّ: (4/144، رقم: 6444). وأَخْرَجَهُ أَيْضًا: العَقيليُّ: (2/100).
وفي بَعْضِ الآثارِ عَنْ عَلِيٍّ ـ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: (إِنَّما أَخْشَى عَلَيْكُمُ اثْنَتَيْنِ: طُولَ الأَمَلِ، واتِّبَاعَ الهَوَى، فإنَّ طُولَ الأَمَلِ يُنْسِي الآخِرَةَ، واتِّبَاعَ الهوَى يَصُدُّ عَنِ الحَقِّ).
قولُهُ تَعَالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} ذَرْهُمْ: فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ "أَنْتَ" يَعُودُ عَلَى سيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والميمُ علامةُ الجَمْعِ المذكَّرِ، وقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ "تَرَكَ" و "وَذَرَ" يَكونانِ بِمَعْنَى صَيَّرَ، وعليْهِ فإنَّهُ يأْخُذُ مفعولينِ فيكونُ المَفْعولُ الثاني مَحْذوفًا، والتقديرُ: ذَرْهُمْ مُهْمِلِينَ، ولا يُسْتَعْمَلُ هذا الفعلُ ماضيًا إِلَّا نادِرًا اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِـ "تَرَكَ" بَلْ يُسْتَعْمَلُ المُضارِعُ مِنْهُ نَحْوَ قولِهِ منْ سورةِ الأِعْرافِ: {وَيَذَرُهُمْ} الآية: 186. وَمِنْ مَجِيءِ المَاضِي قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ: ((ذَرُوا الحَبَشَةَ مَا وَذَرَتْكمْ))، فإنَّ الماضي منهُ "وَذّرَ" وَمِثْلُهُ: (دَعْ ويَدَعُ)، وَلا يُقالُ (وَدَعَ) إِلَّا نَادَرًا، وقد قُرِئَ في سورةِ الضُحى: (ما وَدَعَكَ ربُّكَ وما قَلا) مُخَفَّفًا، ومِنَ الشِّعْرِ قَوْلُ سُوَيْدِ بْنِ أَبي كاهِلٍ:
سَلْ أَميري ما الذي غَيَّرَهْ .................. عَنْ وِصالي اليومَ حَتَّى وَدَعَهْ
وهذه الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. و "يَأْكُلُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بالطَلَبِ السَّابِقِ، وعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ النُّونِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والألِفُ الفارقةُ. والجُمْلَةُ واقعةٌ جَوابًا للطلَبِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. و "وَيَتَمَتَّعُوا" مثلُ: "يَأْكُلُوا" معطوفةٌ عليها. و "يُلْهِهِمُ" فعلٌ مُضارعٌ مجزومٌ على أنَّهُ جوابُ الطلبِ عطفًا على "يَأْكُلوا" وعلامةُ جَزْمِهِ حذْفُ حرفُ العلَّةِ مِنْ آخِرِهِ، وهو الياءُ، لأَنَّهُ مِنْ أَلْهَى يُلْهِي. والهاءُ: ضَميرٌ متَّصلٌ بِهِ في مَحلِّ النَّصْبِ على المَفْعولِيَّةِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ، و "الْأَمَلُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ.
قولُهُ: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} الفاءُ: للتعْليلِ، و "سوفَ" حَرْفُ استقبالٍ تَنْفِيسٍ. و "يَعْلَمُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النونِ في آخِرِهِ، لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ قولِهِ: "ذَرْهُمْ".