الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 56
قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} هو استِفْهامُ إِنْكارٍ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ فقدِ اسْتَثْنَى مِنْهُ الضَّالِّينَ. وهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبِ عَنْ إِبراهيمَ ـ عليهِ السَّلامُ، اجْتِنَابُ الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلَكِنَّهُ امْتَلَكَهُ الْمُعْتَادُ فَتَعَجَّبَ، فَصَارَ ذَلِكَ كَالذُّهُولِ عَنِ الْمَعْلُومِ، فَلَمَّا نَبَّهَهُ الْمَلَائِكَةُ أَدْنَى تَنْبِيهٍ تَذَكَّرَ. فالقائلُ إذًا هوَ سَيِّدُنا إِبْراهِيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وذلك في معرِضِ الرَّدِّ عَلَى المَلائكةِ الكِرامِ الذينَ بَشَّرُوهُ هَذِهِ البُشْرَى العَجِيبَةَ، بِهَذَا الأَمْرِ المُعْجِزِ، وهو أَنْ تَلِدَ امْرَأَتُهُ العاقِرُ بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ عُمْرُها قَريبًا مِنْ مِئَةِ سَنَة، وقد جَاوَزَهَا هوَ أَيْضًا وَأَصْبَحَ شَيْخًا هَرِمًا بَلَغَ عِتِيًا مِنَ الكِبَرِ، كَمَا قَالَ فِي الآيةِ: 8، مِنْ سُورةِ مَرْيَمَ: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}. فإنَّهُ لمَّا قالُوا لَهُ: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} الآية: 55، السابقة. قالَ لهم: ومَنْ يقْنَطُ منْ رحمةِ ربِّهِ إلَّا الضالُّونِ الذينَ أَخْطَأَوا طَريقَ المَعْرِفَةِ، فَلمْ يَعْرَفوا مَدَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ ـ سُبحانَهُ وتَعَالى، وكَمَالَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ ـ جَلَّ وَعَزَّ، فَكَيْفَ أَخْطَأَ ظَنُّكمْ بِي، فَتَوَهَّمْتُمْ أَنِّي أَقْنَطُ مِنْ رِحْمَةِ رَبِّي؟. وهَذَا كَقَوْلِه تَعَالى في الآيةِ: 87، مِنْ سُورةِ يوسُفَ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ ونَبِيِّهِ يَعْقوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {إِنَّهُ لا يَيأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا القَوْمُ الكَافِرُونَ}. فالقنوطُ هو أَتَمُّ اليأْسِ، فقَد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "وَمَنْ يَقْنَطْ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ" قَالَ: مَنْ يَيْأَسْ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ ولِذَلِكَ قالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ: مَنْ ذَهَبَ يُقْنِطُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ أَوْ يُقْنِطُ نَفْسَهُ فقدْ أَخْطَأَ ثُمَّ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: "وَمَنْ يَقْنَطْ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ". أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ. ولهذا فَإِنَّ الَأَنْبِياءَ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، ومَنْ اقْتَدَى بِهِمْ واهْتَدَى بِهَدْيِهمْ، ما فَتِئُوا يَنْهَوْنَ الناسَ عنِ القنوطِ مِنْ رحمةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَإِنَّ مِمَّا أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ أَيضًا، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما، قَولهُ: بَلَغَنِي أَنَّ نُوحًا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ لِابْنِهِ سَام: يَا بُنَيَّ لَا تَدْخُلَنَّ الْقَبْرَ وَفِي قَلْبِكَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الشِّرْكِ بِاللهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يَأْتِ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، مُشْرِكًا فَلَا حُجَّةَ لَهُ. وَ يَا بُنِيَّ لَا تَدْخُلِ الْقَبْرَ وَفِي قَلْبِكَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْكِبْرِ، فَإِنَّ الْكِبْرَ رِدَاءُ اللهِ فَمَنْ يُنَازِعِ اللهَ رِدَاءَهُ يَغْضَبِ اللهُ عَلَيْهِ. وَ يَا بُنَيَّ لَا تَدْخُلَنَّ الْقَبْرَ وَفِي قَلْبِكَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْقُنُوطِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِلَّا ضَالٌّ. وَمِمَّا أَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِر الْأُصُولِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْفَاجِرُ الرَّاجِي لِرَحْمَةِ اللهِ أَقْرَبُ مِنَ العابِدِ القَنِطِ)).
قولُهُ تَعَالَى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوزًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى سيِّدِنا إِبراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ مُستَأْنَفةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "وَمَنْ" الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، و "مَنْ" اسْمُ اسْتِفْهامٍ إِنْكارِيٍّ، مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، و "يَقْنَطُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَقْنَطُ"، و "رَحْمَةِ" مجرورٌ بحرْفِ الجرِّ، مُضافٌ، و "رَبِّهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ، مُضافٌ أَيضًا، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ مُضافٌ إِلَيْهِ ثانٍ. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ، و "الضَّالُّونَ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، لِـ "يَقْنَطُ"، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، والنونُ عِوَضٌ منَ التنوينِ في الاسْمِ المفردِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ "مَنْ"، وعَلَيهِ فَلَا ضَميرَ في "يَقْنَطُ" والرابِطُ للخَبَرُ بالمُبْتَدَأِ الهاءُ مِنْ "رَبِّهِ"، وهَذَا الإِعْرابُ عَلَى مَا قالَهُ: ابْنُ عَنْقَاءَ، وأَمَّا عَلى مَذْهَبِ الجُمْهُورُ فَفِي "يَقْنَطُ" ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ يَعُودُ عَلَى "مَنْ". ومَعْنَى هَذَا الاسْتِفْهامِ النَّفْيُّ؛ وَلِذلِكَ وَقَعَ بَعْدَهُ الإِيجابُ بِـ "إِلَّا". و "الضَّالُّونَ" بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ "يَقْنَطُ" المُسْتَتِرِ فِيهِ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، وَلَمْ يُؤْتَ مَعَهُ بِضَميرٍ؛ لأَنَّ قوَّةَ تَعَلُّقِ المُسْتَثْنَى بالمُسْتَثْنَى مِنْهُ تُغْنِي عَنِ الضَّميرِ، كَمَا قالَهُ الفاكِهِيُّ، وابْنُ عَنْقَاءَ، والعِصَامِيُّ.
قرَأَ الجمهورُ: {يقنَطُ} بفتحِ النُّونِ، وَقَرَأَ أَبْو عَمْرٍو والكِسَائِيُّ "يَقْنِطُ" بِكَسْرِ عَيْنِ هَذَا المُضَارِعِ حَيْثُ وَقَعَ. وقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلَيَّ والأَشْهَبُ بِضَمِّها. وفي الماضي لغتان: قَنِط بِكَسْرِ النُّونِ، يَقْنَطُ بِفَتْحِها، وقَنَطَ بِفَتْحِها يَقْنِطُ بِكَسْرِها، وَلَوْلَا أَنَّ القراءةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ لَكَانَ قِيَاسُ مِنْ قَرَأَ "يَقْنَطُ" بالفَتْحِ أَنْ يَقْرَأَ مَاضِيَهِ "قَنِطَ" بالكَسْر، لَكِنَّهُم أَجْمَعُوا عَلى فَتْحِهِ في قولِه تَعَالى مِنْ سورةِ الشورى: {مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} الآية: 28. والفَتْحُ في الماضي هوَ الأَكْثَر، ولذلكَ أُجْمِعَ عَلَيْهِ. ويُرَجِّحُ قِراءَةَ "يَقْنَطُ" بالفتح قراءةُ أبي عَمْروٍ في بعض الروايات "فَلاَ تَكُنَ مِّنَ القَنِطِينَ" كَفَرِحَ يَفْرَحُ فهو فَرِحٌ. والقُنُوطُ: شِدَّةُ اليَأْسِ مِنَ الخَيْرِ.