الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 9
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لَنَا في هذِهِ الآيةِ الكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَ الْقُرْآنَ الكريمَ، وَأَنَّهُ هو الحَافِظُ لَهُ مِنْ أَنْ يُزَادَ فِيهِ أَوْ يُنْقَصَ أَوْ يَتَغَيَّرَ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ يُبَدَّلَ، فالضَّمِيرُ في "لَهُ" رَاجِعٌ إِلَى الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في سُورَةِ المائدَةِ: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} الآية: 67، وَالْأَوَّلُ أَرجَحُ لأنَّهُ الظَاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ. وَقد بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ في الآيَتانِ: (41 و 42) مِنْ سُورَةِ فُصِّلتْ: {.. وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. وَكقَوْلِهِ في سُورَةِ القيامَةِ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} الآية: 16، إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} الآية: 19، هذا وقد أَكَّدَ الْخَبَرَ بِـ "إِنَّا" الولى والثانيةِ، وَبضَمِيرِ الْفَصْلِ "نَحْنُ" وباللامِ المزحلقةِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِمَا فِي الْوَاقِعِ كَقَوْلِهِ تعالى منْ سُورَةِ (المُنَافِقُونَ): {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} الآية: 1، وَالْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ، ثُمَّ زَادَ ذَلِكَ ارْتِقَاءً وَنِكَايَةً لَهُمْ بِأَنَّهُ هو مُنْزِلَ القُرْآنَ وهُوَ حَافِظُهُ مِنْ كَيْدِهم وكيدِ غيرِهم مِنَ أَعْدَاءِ اللهِ ورسولِهِ وكتابِهِ، وذلك بِحِفْظِهِ مِنَ التَّلَاشِي والزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ، بِأَنْ يَسَّرَ لهُ التَوَاتُرَ، وَسَلَّمَهُ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ والتحريفِ حَتَّى حَفِظَتْهُ الْأُمَّةُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ مِنْذُ حَيَاةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَقَرَّ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِمَسْمَعٍ مِنْهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وَصَارَ حُفَّاظُهُ بِالِغِينَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ فِي كُلِّ مِصْرٍ مِنْ أَمصارِ البلادِ الإسلاميَّةِ.
وَفِي هَذَا تَحدٍّي لِلْمُشْرِكِينَ وإِغَاظَةٌ لهم، بِأَنَّ أَمْرَ هَذَا الدِّينِ سَيَتِمُّ وَيَنْتَشِرُ هذا الْقُرْآنُ وَيَبْقَى عَلَى كرِّ الدهورِ ومَرِّ الْأَزْمَانِ، لِيَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ دليلًا عَلَى صِدْقِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ قَوْلِ الْبَشَرِ، لَطَرَأَتْ علَيْهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، وَلَظهَرَ الِاخْتِلَافُ فيهِ، قَالَ تَعَالَى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} الآية: 82، منْ سُورَة النِّسَاءِ. وَقَدْ سُئِلَ الْقَاضِيَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادٍ الْمَالِكِيَّ الْبَصْرِيَّ عَنْ السِّرِّ فِي تَطَرُّقِ التَّغْيِيرِ لِلْكُتُبِ السَّالِفَةِ وَسَلَامَةِ الْقُرْآنِ مِنْ طرقِ التَّغْيِيرِ لَهُ. فَأَجَابَ بِأَنَّ اللهَ أَوْكَلَ لِلْأَحْبَارِ حِفْظَ كُتُبِهِمْ فَقَالَ: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ} الآية: 44، منْ سُورَة الْمَائِدَة، وَتَوَلَّى حِفْظَ الْقُرْآنِ بِذَاتِهِ تَعَالَى فَقَالَ: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ" الآيةَ. ورويَ مثلُ ذلكَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، قال: قَالَ اللهُ تَعَالى فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ} الآيةَ السابقة، فَجَعَلَ حِفْظَهُ إِلَيْهِمْ فَضَاعَ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ" فَحَفِظَهُ عَلَيْنَا فَلَمْ يَضِعْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، قَالَ: عِنْدَنَا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، وَقَالَ فِي الآيَةِ: 42، مِنْ سورةِ فُصِّلَتْ: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}. وَالْبَاطِلُ إِبْلِيس. قَالَ: فأَنْزَلَهُ اللهُ ثُمَّ حَفِظَهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ إِبْلِيسُ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ بَاطِلًا وَلَا يَنْقُصَ مِنْهُ حَقًا، حَفِظَهُ اللهُ تعالى مِنْ ذَلِكَ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قولُهُ تعالى: {إِنَّا نَحنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} إِنَّا: "إنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتأكيدِ، و "نا" ضميرُ التعظيمِ المتَّصِلُ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "نَحْنُ" قيلَ هوَ ضَميرٌ مُنْفَصِلٌ لتَأْكِيدِ اسْمِ "إنَّ" فلا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ، والصحيحُ أَنَّه ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، ولا يَصِحُّ كَوْنُهُ ضَمِيرَ فَصْلٍ لِعَدَمِ وُقُوعِهِ بَيْنَ اسْمَيْنِ، و "نَزَّلْنَا فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ، و "نا" التعظيمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلٌ به، و "الذِّكْرَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، والجُمْلةُ في محلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إنَّ"، أَوْ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، وجُمْلَةُ "إنَّ" مِنِ اسْمِها وخبرِها جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرَابِ في الحالينِ.
قولُهُ: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الواوُ: للعَطْفِ، و "إنَّا" كسابِقتِها، و "لَهُ" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ بَعْدَهُ، و "لَحَافِظُونَ" اللامُ: المُزَحْلَقَةُ أو حَرْفُ ابْتِداءٍ، وهيَ في الحالينِ للتأكيدِ، و "حَافِظُونَ" خبرُ "إنَّ" أو خبرُ المُبْتَدَأِ مَرْفوعٌ وعلامةُ رَفْعِهِ الواوُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسْمِ المفردِ، وَجُمْلَةُ "إنَّ" معطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ "إنَّ" الأُولَى، على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرَابِ.