قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ
(41)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} الصِّرَاطُ المُسْتقيمُ: هو الخَيْرُ والرَّشادُ، وهُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ الَّذِي يَقْصِدُ مِنْهُ عَامِلُهُ فَائِدَةً. شُبِّهَ بِالطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ وُصُولَهُ إِلَيْهِ، أَيْ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ الَّتِي وَضَعْتُهَا فِي النَّاسِ، وَفِي غَوَايَتِكَ إِيَّاهُمْ وَهِيَ أَنَّكَ لَا تُغْوِي إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ، أَوْ أَنَّكَ تُغْوِي مَنْ عَدَا عِبَادِي الْمُخْلِصِينَ. وعَلَيَّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوُجُوبِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ الْفِعْل الدَّائِم الَّتِي لَا يَتَخَلَّفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ اللَّيْلِ: {إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى} الآية: 12، أَيْ أَنَّا الْتَزَمْنَا الْهُدَى لَا نَحِيدُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَعَظَمَةُ الْإِلَهِيَّةِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِمَّا يُرْسَلُ مِنَ الْأَمْثَالِ الْقُرْآنِيَّةِ. ومُسْتَقِيمٌ نَعْتٌ لِـ "صِراطٌ، أَيْ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. وَاسْتُعِيرَتِ الِاسْتِقَامَةُ لِمُلَازَمَةِ الْحَالَةِ الْكَامِلَةِ. والْإِشَارَةُ إِلَى المُسْتَثْنَى في الجُمْلَةِ السَّابِقَةِ الَّذِي سَبَقَ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ إِبْلِيسَ مِنْ قَوْلِهِ: {إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ غَوَايَةَ الْعِبَادِ الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللهُ لِلْخَيْرِ. ويَجُوزُ أَنْ تَكونَ هَذِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى غَيْرِ مُشَاهَدٍ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ، وَتَنْزِيلًا لِلْمَسْمُوعِ مَنْزِلَةَ الْمَرْئِيِّ. بِقَصْدِ التَّشْوِيقِ إِلَى سَمَاعِهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ. فَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا إِذًا بِمَنْزِلَةِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، كَمَا جَرَتِ العادةُ أَنْ يُكْتَبَ فِي الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ فُلَانٌ فَلَانًا، أَوْ هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ. وَالـصِّرَاطُ: مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ الَّذِي يَقْصِدُ مِنْهُ عَامِلُهُ فَائِدَةً. شُبِّهَ بِالطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ وُصُولَهُ إِلَيْهِ أَيْ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ الَّتِي وَضَعْتُهَا. وَ "عَلَيَّ" بِمَعْنَى (إِليَّ). فقَدَ أَخْرَجَ ابْنْ جَريرٍ الطَبَرِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ" يَقُولُ: هَذَا صراطٍ إِلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُمَا قَرَآ: (هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم) وَقَالا: "عَلَيَّ" هِيَ "إِلَيَّ" وبِمَنْزِلَتِهَا. وَقَريبٌ مِنْهُ ما أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} قَالَ: الْحقُّ يَرْجِعُ إِلَى اللهِ وَعَلِيهِ طَرِيقُهُ لَا يُعَرِّجُ عَلَى شَيْءٍ. تَفْسيرُ مُجاهِدٍ: (ص: 341)، وتَفْسيرُ الطَبَرِيِّ: (14/33). والمَعْنَى: هَذَا طَريقٌ مَرْجِعُهُ إِلَيَّ فَأُجازي كُلًّا بِأَعْمالِهم، وعَلَى هَذَا فَـ "مُسْتَقيمٌ" أَيْ مُسْتَوٍ رَفيعٌ: فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} أَيْ: رَفِيعٌ مُسْتَقِيمٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} يَعْنِي رَفيعٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} يَقُولُ: رَفيعٌ.
قولُهُ تَعَالَى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} قالَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على اللهِ تعالى. و "هَذَا" الهاءُ: للتَنْبِيهِ، و "ذا" اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابتِداءِ. والإشارةُ إِلَى الإِخْلاصِ المَفْهومِ مِنَ {المُخْلَصِينَ}، وقِيلَ: "هذا"، أَيْ: انْتِفاءُ تَزْيينِهِ وإِغوائِهِ. و "صِراطٌ" خبرُهُ مرفوعٌ. و "عليَّ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بالخَبَرِ، أَيْ: مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ مَرَّ عَلَيَّ، أَيْ عَلَى رِضْواني وكَرَامَتي. وَقِيلَ: (عَلَى) بِمَعْنَى (إِلَى)، نُقِلَ عَنِ الحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، كما تَقَدَّمَ في التفسيرِ.
قَرَأَ الجُمهورُ: {وأَنْ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتقيمٌ} بِفَتْحِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْيَاءِ ـ عَلَى أَنَّهَا حرفُ الجَرِّ (عَلَى) اتَّصَلَتْ بِهَا يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ قَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ، وابْنُ سِيرينَ، وقَتَادَةُ، ويَعْقوبُ وغَيْرُهم، وكُلُّهم مِنَ القُرَّاءِ العَشْرِ: {عَلِيٌّ مُسْتَقِيمٌ} بِكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّ الْيَاءِ وَتَنْوِينِهَا ـ عَلَى أَنَّهُ وَصَفٌ مِنَ الْعُلُوِّ وُصِفَ بِهِ صِرَاطٌ، أَيْ صِرَاطُ شَرِيفٍ عَظِيمِ الْقَدْرِ عَالٍ مُرْتَفِعٌ، وهُوَ مَدْحٌ لِذَلِكَ الطَّريقِ الموصِلِ إِلَيْهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، أَيْ إلى رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَجْنَّتِهِ ورِضْوانِهِ بأَنَّهُ طَرِيقٌ مُسْتقيمٌ لا عِوَجَ ولا الْتِواءَ فِيهِ؛ وَهُوَ طَريقُ التَفْويضِ إِلَى اللهِ ـ سُبْحانَهُ تَعَالَى، والإيمانِ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنْهُ ـ جَلَّ جَلالُهُ العَظيمُ، طَريقٌ دقيقٌ رَفِيعٌ مُسْتَقيمٌ، وَقَدْ عَرَّفَ العلَمَاءُ المُسْتَقيمَ، بِأَنَّهُ أَقْصَرُ مَسَافِةٍ واصِلَةٍ بَيْنَ نُقْطَتَيْنِ.