الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 10
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} إِبْطَالٌ لِاسْتِهْزَائِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِنُظَرَائِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. والمَعْنَى ولَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ يا مُحَمَدُ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، رُسُلًا في أُمَمِ الأَوَّلِينَ. وَفِي هَذَا تَحْقِيقٌ لِكُفْرِهِمْ لِأَنَّ كُفْرَ أُولَئِكَ الفِرَقِ مِنَ الأَقوامِ السَّالِفَةِ مُحَقَّقٌ ومُقَرَّرٌ عِنْدَ جَميعِ الْأُمَمِ، وَمُتَحَدَّثٌ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. أَيْ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا، فَحُذِفَ. وَالشِّيَعُ جَمْعُ شِيعَةٍ وَهِيَ الْأُمَّةُ، أَيْ فِي أُمَمَهمْ، قالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وقتادة ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم. فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، فِي قَوْلِهِ ـ سُبْحانَهُ وتعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ" أَنَّهُ قَالَ: في أُمَمِ الْأَوَّلين. وأخرجَ الطَبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها، أَنَّهُ قالَ في قوْلِهِ تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ" أَيْ: فِي الأُمَمِ. ورُوِيَ عَنِ الحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: "في شِيَعِ الأَوَّلين" أَيْ: فِي فِرَقِهِمْ.
وَالشِّيعَةُ: الحِزْبُ والْفِرْقَةُ وَالطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ الْمُتَآلِفَةُ الْمُتَّفِقَةُ الْكَلِمَةِ. فَكَأَنَّ الشِّيَعَ الْفِرَقُ، وشايَعَهُ: تَبِعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى في سُورَةِ الأَنْعَامِ: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} الآيةَ: 65. وقَوْلُهُ في الآية: 69، مِنْ سُورةِ مَريم: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا}.
وَالأَصْلُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّيَاعِ وَهُوَ الْحَطَبُ الصِّغَارُ يُوقَدُ بِهِ الْكِبَارُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إنَّ الشِيَعَ هُنَا القُرَى. وهوَ مِنْ إِضافَةِ المَوْصُوفِ إلى صِفَتِهِ، والأَصْلُ أَنْ يُقالَ: في الشِّيَعِ الأَوَّلِينَ، ومثلُهُ: (صَلاةُ الأُولى)، و (جانِبُ الغربيِّ). والبَصْرِيُّونَ يُؤَوِّلُونَهُ عَلَى حَذْفِ المَوْصُوفِ، أَيْ: فِي شِيَعِ الأُمَمِ الأَوَّلِينَ، وجانِبِ المَكانِ الغَرْبِي، وَصَلاةُ السَّاعَةِ الأُوْلَى.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} الواوُ: للاسْتِئْنَافِ، واللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، و "قَدْ" حَرْفُ تَحْقيقٍ، و "أَرْسَلْنَا": فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ، وهي ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ رَفْعٍ فاعِلُهُ، ومَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ تَقْديرُهُ: (رُسُلًا)، و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَرْسَلْنَا"، و "قَبْلِكَ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلّةِ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "فِي" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ للمَفْعُولِ المَحْذُوفِ، وهوَ مِنْ إِضَافَةِ المَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، و "شِيَعِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ، مُضافٌ، و "الْأَوَّلِينَ" مجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ جمْعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ منَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدَ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه جَوابُ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.