الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 7
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} أَيْ: هَلَّا جئتَنا بالمَلائِكَةِ لتَشْهَدَ لَكَ بالصِّدْقِ فِيمَا جِئْتَنَا بِهِ مِنْ أَمْرِ هذا الدينِ فيَشْهَدونَ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِكَ ويَعْضُدُونَكَ في الإِنْذارِ كَقَوْلِهِ تَعَالى في سورةِ الفُرْقان: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} الآية: 7. أَوْ يُعاقِبونَنَا عَلَى التَكْذيبِ، كَما تَأْتي الأُمَمُ المُكَذِّبَةُ لِرُسُلِهمْ، قالوا ذَلِكَ لِفَرْطِ جُحُودِهم، وذَلِكَ بعد أَنْ شَتَموهُ ـ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وتَهَكَّموا بِهِ. والْمُرَادُ بِالْإِتْيَانِ بِالْمَلَائِكَةِ حُضُورُهُمْ عِنْدَهُمْ لِيُخْبِرَهُمْ بِصِدْقِهِ فِي الرِّسَالَةِ. وَهَذَا كَمَا حَكَى اللهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى مِنْ سُورَة الْإِسْرَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} الآية: 92. وكما حكى عَنْ فِرْعَوْنَ قَوْلَهُ: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} الآية: 53، مِنْ سورةِ الزخرف.
قولُهُ: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في دَعْوَاكَ، فإِنَّ قُدْرَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ مِمَّا لا رَيْبَ فِيهِ، وكَذَا احْتِيَاجُكَ إِلَيْهِم في إمْضاءِ أَمْرِكَ فإنَّا لا نُصَدِّقُكَ بِدونِ ذَلِكَ. وَ "مِنَ الصَّادِقِينَ" أَيْ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ صِفَتُهُمُ الصِّدْقُ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ أَنْ يُقالَ: (إِنْ كُنْتَ صَادِقًا)، كَمَا تَقَدَّمَ بيانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَة: {قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} الآية: 219، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالى في الآية: 67، مِنْ سُورَة بَرَاءَةٍ: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.
قولُهُ تَعَالى: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} لَوْ مَا: حَرْفُ تَحْضِيضٍ بِمَعْنَى (هلَّا) و (لولا)، وتَكونُ أَيْضًا حَرْفَ امْتِنَاعٍ لِوُجودٍ، و "لولا" أَيضًا تَكونُ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ هَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ، وَالفَرقُ بَيْنَهُما أَنَّ التَحْضِيضِيَّةَ لا يَلِيها إِلَّا الفِعْلُ، ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا كقَوْلِ جَريرٍ يَهْجُو الفَرَزْدَقَ:
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيْبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ ..... بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلَا الْكَمِيَّ الْمُقَنَّعَا
فإِنهُ ثمَّةَ فعلٌ مُضْمَرٌ هنا تقديرُهُ: "تَعُدُّونَ"، والامْتِنَاعِيَّةُ لا يَلِيها إِلَّا الأَسْمَاءُ لَفْظًا أَوْ تَقْديرًا عِنْدَ البَصْرِيّينَ، وقولُ أَحَدِهم:
ولولا يَحْسَبُون الحِلْمَ عَجْزًا ................ لَمَا عَدِمَ المُسِيْئُون احْتِمالي
مؤوَّلٌ خِلافًا للكُوفِيِّينَ. فَمِنْ مَجيءِ "لَوْما" حَرْفَ امْتِنَاعٍ قَوْلُ ابْنِ مُقْبِلٍ السابِقُ:
لَوْمَا الْحَيَاءُ وَلَوْمَا الدِّينُ عِبْتُكُمَا ....... بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إِذْ عِبْتُمَا عَوَرِي
يُرِيدُ لَوْلَا الْحَيَاءُ. قال الْكِسَائِيُّ: لَوْلَا وَلَوْمَا سَوَاءٌ فِي الْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامِ. وَحَكَى النَّحَّاسُ لَوْمَا وَلَوْلَا وَهَلَّا وَاحِدٌ. وَأَنْشَدَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى ذَلِكَ بَيْتَ جَرِيرٍ يَهْجُو الفرزدق:
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيْبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ ..... بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلَا الْكَمِيَّ الْمُقَنَّعَا
أَيْ هَلَّا تَعُدُّونَ الكَمِيَّ المُقَنَّعَا. ثمَّ اخْتُلِفَ فِيها: هَلْ هِيَ بَسِيطَةٌ أَمْ مُرَكَّبَةٌ؟ فقالَ الزَمَخْشَرِيُّ: "لَوْ" رُكِّبَتْ مَعَ "لا" ومعَ "ما" لِمَعْنَيَيْنِ، وأَمَّا "هل" فَلَمْ تُرَكَّبْ إِلَّا مَعَ "لا" وَحْدَها للتَّحْضيضِ. واخْتُلِفَ أَيْضًا في "لوما": هَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِها أَوْ فَرْعٌ عَلَى "لولا"؟. وأَنَّ المِيمَ مُبَدَّلةٌ مِنَ اللامِ كَقَوْلِهم: خالَلْتُهُ وخالَمْتُه فهُوَ خِلِّيٌّ وخِلْمِي، أَيْ: صَديقي. وَقالُوا: اسْتَوْلَى عَلَيَّ كَذَا، واسْتَوْمَى عَليهِ، بِمَعْنَى؟. وهَذِهِ الجُمْلَةُ مِنَ التَحْضِيضِ دَالَّةٌ عَلَى جَوابِ الشَّرْطِ بَعْدَها. و "تَأْتِينَا" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ الضَمَّةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى آخِرِهِ لثِقَلِها عَلى الياءِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعودُ عَلى سيدنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، و "بِالْمَلَائِكَةِ" الباءُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالفِعْلِ "تَأْتِي"، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القولِ لـ "قال".
قولُهُ: {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} إِنْ: حَرْفُ شَرْطٍ، و "كُنْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ، في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَها، وتاءُ الفاعلِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الرفعِ اسْمُها، و "مِنَ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ كانَ، و "الصَّادِقِينَ" مجرورٌ بحرْفِ الجرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ. وجَوَابُ "إِنْ" الشَرْطِيَّةِ مَحْذُوفٌ لأَنَّهُ عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهَا والتَقديرُ: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأْتِنَا بالمَلائِكَةِ، وجُمْلَةُ "إِنْ" الشَرْطِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قال".