وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ
(22)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ} أَرْسَلْنَا: الْإِرْسَالُ: مَجَازٌ فِي نَقْلِ شَّيْءٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ. والإرسال هو الدَّفْع للشيء من حَيّز إلى حَيِّز آخر، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّيَاحَ مُسْتَمِرَّةُ الْهُبُوبِ فِي الْكُرَةِ الْهَوَائِيَّةِ. تَظْهَرُ فِي مَكَانٍ آتِيَةً إِلَيْهِ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ. وكُلُّ مَكانٍ؛ هوَ مَوْقِعٌ لإرْسالِ الرِّياحِ؛ وَكُلُّ مَكَانٍ هوَ مَوْقِعٌ لاسْتِقْبَالِها. و "لَواقِحَ" جَمْعُ لَاقِحٍ وَهِيَ النَّاقَةُ الْحُبْلَى. وَاسْتُعْمِلَ "لَواقِحَ" هُنَا اسْتِعَارَةً لِلرِّيحِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الرُّطُوبَةِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا فِي نُزُولِ الْمَطَرِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ فِي ضِدِّهَا (الْعَقِيمُ) بقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الذّارِياتِ: {إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} الآية: 41، فَالْعَقِيمُ: ضِدُّ اللَّاقِحِ. و "لَوَاقِح" هاهُنَا بِمَعْنَى مَلَاقِحَ، أَيْ: جَمْعُ مُلَقَّحَةٍ. تَقُولُ الْعَرَبُ أَبْقَلَ النَّبْتُ فهوَ بَاقِلٌ يُرِيدُونَ هُوَ مُبَقَّلٌ. وَيجوزُ أيضًا أَنْ يَكُونَ "لَوَاقِحَ" جَمْعُ مُلَقِّحٍ، أَيِ الْفَحْلُ إِذَا أَلْقَحَ النَّاقَةَ فَهُوَ يَجْعَلُ غَيْرَهُ لَاقِحًا، فَـ (فَوَاعِل) يَجِيءُ أيضًا جَمْعَ (مُفْعِلٍ) مُذَكَّرٍ وإنْ كان نَادِرًا، كَقَوْلِ الْحَارِثِ بْنِ نُهَيْكٍ ـ أَوْ ضِرَارٍ النَّهْشَلَيِّ وقيل هو لنهشلِ بْنِ حَرِيٍّ يَرْثي أَخَاهُ يَزيد:
لَبَّيْكَ يَزِيدُ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ ................ وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تَطيحُ الطوائِحُ
ورُوعِيَ فِيهِ جَوَازُ تَأْنِيثِ الْمُشَبَّهِ بِهِ. وَهِيَ جَمْعُ الْفُحُولِ لِأَنَّ جَمْعَ مَا لَا يَعْقِلُ يَجُوزُ تَأْنِيثُهُ. وقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُقالَ لَهَا لَوَاقِح وإِنْ أَلْقَحَتْ غَيْرَهَا لِأَنَّ مَعْنَاهَا النِّسْبَةُ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: دِرْهَمٌ وَازِنٌ، أَيْ ذُو وَزْنٍ، وَرَامِحٌ وَسَائِفٌ، أَيْ ذُو رُمْحٍ وَذُو سَيْفٍ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِمُغْنٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ اللَّاقِحُ. بِمَعْنَى ذَاتِ اللِّقَاحِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ اللَّاقِحَ هُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَى اللِّقْحَةِ، ويَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلرِّيحِ لَقِحَتْ إِذَا أَتَتْ بِالْخَيْرِ، كَمَا قِيلَ لَهَا عَقِيمٌ إِذَا لَمْ تَأْتِ بِالْخَيْرِ، فالْعَرَبُ يَقُولُونَ: قَدْ لَقِحَتِ الْحَرْبُ وَقَدْ نَتَجَتْ وَلَدًا أَنْكَدَ. يُشَبِّهُونَ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ ضُرُوبِ الشَّرِّ بِمَا تَحْمِلُهُ النَّاقَةُ. ويجوزُ أنْ يكونَ "لَقَحَتْ" بمَعْنَى "حَمَلَتْ" فَعَلَى أَيْ أَنَّ الرِّيحَ لَاقِحَةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا حَامِلَةٌ للسَّحَابَ وَالْمَاءَ، لقولِهِ تعالى في سُورَةِ الأعراف: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحابًا ثِقالًا} الآية: 57. فأقَلَّتْ مَعْناهُ: حَمَلَتْ. والرِّيحُ هي هَوَاءٌ مُتَحَرِّكٌ وَهذه الحَرَكَةُ لَا بُدَّ لَهُا مِنْ مُحرِّكٍ، فإنَّ سَبَبَ الحركةِ لَيْسَ كونُ الهواءِ مُتَحَرِّكًا بنَفْسِهِ، وَلَيسَتِ الحركةُ شَيْئًا مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَإِلَّا لَدَامَتْ حَرَكَتُهُ بِدَوَامِ ذَاتِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، إِذًا فَإِنَّ الهَواءَ مُتَحَرِّكٌ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَهذا الفاعلُ المختارُ هوَ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالى.
وقد اتَّفَقَتِ الآثارُ بِأَنَّ الرِّياحَ اللَّواقِحَ هي رِيحُ الجَنُوبِ، وَرَدَ ذَلِكَ فِيما أَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ (السَّحَاب)، وَابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي (العَظَمَةِ): (4/1305، رقم: 8004)، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والدَّيْلَمِيُّ فِي (مُسْنَدِ الفِرْدَوْسِ): (2/271، رقم 3262)، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((رِيحُ الْجَنُوبِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهِيَ الرِّيحُ اللَّواقِحُ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وفِيهَا مَنَافِعُ للنَّاسِ، وَالشَمَالُ مِنَ النَّارِ، تَخْرُجُ فَتَمُرُّ بِالْجنَّةِ فيُصِيبُها نَفْحَةٌ مِنْهَا، فبَرْدُها هَذَا مِنْ ذَلِكَ)). وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتِمٍ، والطَبَرانيُّ، والخَرَائِطِيُّ فِي (مَكَارِم الْأَخْلَاقِ) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، في قولِهِ تعالى: "وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ" قالَ: يُرْسِلُ اللهُ الرِّيحَ فَتَحْمِلُ الْمَاءَ، فَتُلَقِّحُ بِهِ السَّحَابَ، فَتَدِرُّ كَمَا تَدِرُّ اللِّقْحَةُ، ثُمَّ تُمْطِرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُما، نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: يَبْعَثُ اللهُ الْمُبَشِّرَةَ فَتَقُمُّ الْأَرْضَ قَمًّا، ثُمَّ يَبْعَثُ الْمُثِيرَةَ فَتُثِيرُ السَّحَابَ فَتَجْعَلُهُ كِسَفًا، ثُمَّ يَبْعَثُ الْمُؤَلِّفَةَ فَتُؤَلِّفُ بَيْنَهُ فَيَجْعَلُهُ رُكَامًا، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّوَاقِحَ فَتُلَقِّحُهُ فَتُمْطِرُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ، قَالَ: تَلْقَحُ الشَّجَرَةَ وَتَمْرِي السَّحَابَ: وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ قُلْتُ لِلْحَسَنِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ" قَالَ: لَوَاقِحُ لِلشَّجَرِ، قُلْتُ: أَوِ السَّحَابِ، قَالَ: وَلِلسَّحَابِ تَمُرُّ بِهِ حَتَّى يُمْطِرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ قَالَ: تَلْقَحُ الْمَاءَ فِي السَّحَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ قَالَ: الرِّيحُ يَبْعَثُهَا اللهُ عَلَى السَّحَابِ، فَتَلْقَحُهُ فَيَمْتَلِئُ مَاءً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ، وَالْجَنُوبُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهِيَ الرِّيحُ اللَّوَاقِحُ)). وأَخْرَجَهُ الأَئِمَّةُ: أَحْمَدُ في مُسْندِهِ: (1/228(2013). وعَبدُ بنُ حُمَيْدٍ: (637). والبُخَارِي في صحيحِهِ: (2/40(1035). ومُسْلِمٌ في صحيحِهِ: (3/27(2042). والنَّسائيُّ في السُنَنِ الكبرى: (11553) وغيرُهم إنَّما نصُّهُ عِنْدَهم: ((نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ)) فقط. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي (عَمَلِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ)، وَالطَّبَرَانِيُّ في معجمهِ الأوسط، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَن سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذا اشْتَدَّتِ الرِّيحُ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ لَقَحًا لَا عَقِيمًا)). المُسْتَدْرَك بِتَعْلِيقِ الذَهَبِيِّ (6/304)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وتَعليقُ الذَهَبِيِّ في التَلْخِيصِ: صحيحٌ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. كمَا كانَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، يَسْتَعِيذُ باللهِ مِنْ ريحُ الشَمالِ حينَ اشْتِدادِها، فَقَدْ أَخرجَ الطَبَرانِيُّ في (المُعجَمِ الكَبيرِ) عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا اشْتَدَّتِ الرِّيحُ الشَّمَالُ، قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَرْسَلْتَ)).
قولُهُ: {فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً} تَفْريعٌ على قَوْلِهِ "وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ" فإِنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ ـ جَلَّ وَعَزَّ، يُنْزِلُ المَطَرَ مِنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ إِحْسَانًا مِنْهُ إِلى عِبادِهِ وإِنْعَامًا وتفضُّلًا.
قولُهُ: {فَأَسْقَيْناكُمُوهُ} الْهَمْزَةُ هُنَا لِلْجَعْلِ فـَ "أَسْقَيْناكُمُوهُ" أَيْ: جَعَلْنَاهُ لَكُمْ سُقْيًا، وَكَثُرَ إِطْلَاقُ (أَسْقَى) بِمَعْنَى (سَقَى). وقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ مَا كَانَ فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ وَمِنَ السَّمَاءِ أَوْ نَهْرٍ يَجْرِي أَسْقَيْتُهُ أَيْ جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ، وَجَعَلْتُ لَهُ مِنْهَا مَسْقًى، فَإِذَا كَانَتِ السُّقْيَا لِسَقْيِهِ قَالُوا سَقَاهُ، وَلَمْ يَقُولُوا أَسْقَاهُ. وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي قَوْلِهِ تعالى مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} الآية: 66، فقرؤوا بِاللُّغَتَيْنِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قَوْلِهِ: {وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُورًا} الآية: 21، مِنْ سُورَةِ الْإِنْسَانِ. وَفِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} الآية: 79، مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: سَقَيْتُهُ حتى رُوِيَ وَأَسْقَيْتُهُ نَهْرًا، أَيْ جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ وَقَوْلَهُ: فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أَيْ جَعَلْنَاهُ سَقْيًا لَكُمْ وَرُبَّمَا قَالُوا فِي أَسْقَى سَقَى كَقَوْلِ لَبِيدٍ يَصِفُ سَحَابًا:
أَقُولُ وَصَوْبُهُ مِنِّي بَعِيدٌ .................. يَحُطُّ السَّيْبُ مِنْ قُلَلِ الْجِبَالِ
سَقَى قَوْمِي بَنِي نَجْدٍ وَأَسْقَى .................. نُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلَالِ
فَقَوْلُهُ: سَقَى قَوْمِي لَيْسَ يُرِيدُ بِهِ مَا يَرْوِي عِطَاشَهُمْ ولكنْ يُريدُ رِزْقَهم سُقْيا لِبَلادهم يُخَصِّبُونَ بِهَا، وَبَعِيدٌ أَنْ يَسْأَلَ لِقَوْمِهِ مَا يَرْوِي العِطاشَ ولِغيرِهمْ مَا يُخَصِّبُونَ بِهِ. وَأَمَّا سُقْيَا السُّقْيَةِ فَلَا يُقَالُ فِيهَا أَسْقَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ .................... تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُهُ وَمَلَاعِبُهُ
فَمَعْنَى أَسْقِيهِ أَدْعُو لَهُ بِالسِّقَاءِ، وَأَقُولُ سَقَاهُ اللهُ.
قولُهُ: {وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ} يَعْنِي بِهِ ذَلِكَ الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ أي لَسْتُمْ لَهُ بِحَافِظينَ، أي: لستم حابِسينَ لما تقدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ المَطَرِ والمَاءِ النازِلِ مِنَ السَّماءِ. ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ المعنى: لَيْسَتْ خَزَائِنُهُ في أَيديكمْ، ولا بَيَدِ أَحَدٍ سِوَى الله ـ جَلَّ وعَزَّ. ويجوزُ أيضًا أَنْ يكونَ المُرادُ: وَمَا أَنْتُمْ بِمُدَبِّرينَ ما خُزِنَ في الأَرْضِ ودُفِنَ فيها.
وفي هذِهِ الآيةِ الكريمةِ اِسْتِدْلَالٌ عَلَى عَظيمِ قُدْرتِهِ ـ جَلَّ وعَلا، بِظَوَاهِرِ كُرَةِ الْهَوَاءِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وفِعْلِ الرِّيَاحِ وَالْمِنَّةِ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ، بعدَ الِاسْتِدْلَالِ في الآيتينِ السابقتين، بِظَوَاهِرِ الْأَرْضِ وَظَوَاهِرِ السَّمَاءِ.
وتَمَسَّكَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ قَالَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ خَزَائِنُ، وَأَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْخَزَائِنُ حَاصِلَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ تِلْكَ الْخَزَائِنِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَوْجُودَةٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ الْإِحْدَاثُ وَالْإِبْدَاعُ وَالْإِنْشَاءُ وَالتَّكْوِينُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حُصُولُ تِلْكَ الْخَزَائِنِ عِنْدَ اللهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى حُدُوثِهَا وَدُخُولِهَا فِي الْوُجُودِ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ تِلْكَ الذَّوَاتِ وَالْحَقَائِقَ وَالْمَاهِيَّاتِ كَانَتْ مُتَقَرِّرَةً عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، بِمَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا حَقَائِقُ وَمَاهِيَّاتٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ بَعْضَهَا أَيْ أَخْرَجَ بَعْضَهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا شَكَّ أَنَّ لَفْظَ الْخَزَائِنِ إِنَّمَا ورد هاهنا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى إِيجَادِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَتَكْوِينِهَا وَإِخْرَاجِهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يسقط الاستدلال، والمباحث الدَّقِيقَةُ بَاقِيَةٌ، وَاللهُ أَعْلَمُ. تَفْسيرُ مَفاتيحُ الغيبِ للإمام الرازي: (19/134).
قولُهُ تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ} الواوُ: للعطفِ، و "أَرْسَلْنَا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" التَعْظيمِ، و "نا" المعظِّمِ نَفْسَهُ ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعلُهُ. و "الرِّياحَ" مَفْعُولٌ بهِ منصوبٌ، و "لَوَاقِحَ" منصوبٌ على الحالِ مِنَ "الرِّيَاحَ"، والجملةُ معطوفَةٌ عَلى جملةِ {جَعَلْنَا}. منَ الآية: 20، السابقةِ.
قولُهُ: {فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً} الفاءُ: حرفُ عطْفٍ، و "أَنْزَلْنا" معطوفٌ عَلَى "أَرْسَلْنَا" ولهُ مثلُ إعرابِهِ. و "مِنَ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْزَلْنَا"، و "السَّمَاءِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. وَ "ماءً" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. والجُمْلَةُ معطوفةٌ على جملةِ "أَرْسَلْنا".
قولُهُ: {فَأَسْقَيْناكُمُوهُ} الفاءُ: للعطفِ، و "أَسْقَيْنا" مثلُ "أَنْزَلْنا" وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ، والواوُ لإشْبَاعِ حَرَكَةِ المِيمِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ النصبِ مفعولٌ بِهِ ثانٍ، والجُمْلَةُ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "أنزلنا".
قولُهُ: {وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ} الواوُ: حَالِيَّةٌ، و "مَا" حِجازِيَّةٌ أَوْ تَمِيمِيَّةٌ. و "أَنْتُمْ" ضميرٌ منفصِلٌ في محلِّ الرفعِ اسْمُ "مَا"، الحِجازيةِ، أَوْ مُبْتَدَأٌ إنْ أعرِبتْ تميميَّةً، و "لَهُ" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "بِخَازِنِينَ" الباءُ حرفُ جرٍّ زائدٍ، و "خَازِنِينَ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ لفظًا، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالِمُ، والنونُ عِوَضٌ عَنِ التنوينِ في الاسْمِ المفردِ، وهو مَنْصُوبٌ مَحَلًا خَبَرُ "ما" الحِجازيَّةِ، أَوْ مرفوعٌ محلًا خَبَرُ المُبْتَدَأِ، إِنْ كانتْ تميميَّةً، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ ضَميرِ المُخَاطَبِينَ.