الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 11
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} نَفْيٌ لإتْيَانِ كُلِّ رَسُولٍ لِشِيعَتِهِ الخَاصَّةِ بِهِ، وَلَيْسَ نَفْيًا لإتْيانِ كُلِّ رَسُولٍ لِكُلِّ واحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الشِّيَعِ، جَميعًا أَوْ عَلَى سَبيلِ البَدَلِ، وفيهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ كَمَا فَعَلَ بِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فَكَذَلِكَ فُعِلَ بِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ. فقد قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما: يُعَزِّي نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، ويُصَبِّرُهُ، يُريدُ كَما اسْتَهْزَأَ بِكَ قَوْمُكَ بَعْدَ طُولِ إِكْرامِهمْ لَكَ، قالَ أَهْلُ المَعَاني: وإِنَّما حَمَلَ الأُمَمَ عَلَى الاسْتِهْزاءِ اسْتِبْعادُ مَا دُعُوا إِلَيْهِ، والاسْتِيحاشُ مِنْهُ والاسْتِنْكارُ لَهُ، حَتَّى تَوَهَّمُوا أَنَّهُ مِمَّا لا يَكونُ ولا يَصِحُّ مَعَ مُخالَفَتِهِ لِما كانَ عَلَيْهِ الأَسْلافُ؛ وذَلِكَ أَنَّهم تَعَجَّلُوا الرَّاحَةَ بإِسْقاطِ النَّظَرِ عَنْ أَنْفُسِهم، والتَّفَكُّرِ فِيما أَوْرَدَهُ الرَّسُولُ مِنَ المُعْجِزاتِ لِيَدُلَّهم عَلَى الحَقِّ.
وَفي هَذِهِ الآيةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الرُّسُلِ كانَ مُبْتَلًى بِطائفَةٍ مِنَ المُشْرِكينَ، وَمَا خَلَصَتْ لِرَسُولٍ دَعْوَةٌ مِنَ الاسْتِهْزاءِ والتَكَبُّرِ. وَصِيغَةُ الاسْتِقْبالِ لاسْتِحْضَارِهِ الصُّورَةِ عَلَى طَريقَةِ حِكَايَةِ الحالِ المَاضِيَةِ فإِنَّ "مَا" لا تَدْخُلُ ـ في الأَغْلَبِ، عَلى مُضارِعٍ إِلَّا وَهوَ في مُعْنَى الحالِ، ولا عَلَى ماضٍ إِلَّا وَهوَ قَريبٌ مِنَ الحالِ، أَيْ مَا أَتى شِيعَةً مِنْ تِلْكَ الشِّيَعِ رَسُولٌ خاصٌّ بِها "إِلَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ" كَمَا يَفْعَلُهُ هَؤُلاءِ الكَفَرَةُ. ويدُلُّ قولُهُ: "كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ" عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ سُنَّتُهُمْ، فَقد دَلَّتْ "كَانَ" عَلَى أَنَّهُ سَجِيَّةٌ لَهُمْ، وَدلَّتْ صيغةُ الْمُضَارِعُ "يَسْتَهْزِؤُنَ" عَلَى تَكَرُّرِ ذِلِكَ مِنْهُمْ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} الواوُ: عاطِفَةٌ، و "مَا" نَافِيَةٌ لا عَمَلَ لَهَا. وَ "يَأْتِيهِمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ وعلامةُ رَفعِهِ الضمَّةُ المُقدَّرةُ على آخِرِهِ لثقَلِها على الياءِ. والهاء: ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والميمُ علامةُ جَمْعِ المُذكَّرِ، و "مِنْ" حرفُ جرٍّ زائدَةٌ، و "رَسُولٍ" مجرورٌ لفظًا بحرفِ الجرِّ الزائدِ، مرفوعٌ مَحَلًا على أَنَّهُ فاعلُ "يأْتي" والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ في الآيةِ السابقةِ: {وَلَقَد أَرسَلنَا} عَلَى كَوْنِها جَوابَ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، و "إِلَّا" أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرِّغٍ، و "كَانُوا" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعة، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ اسْمُهُ، والأَلِفُ الفارقةُ، و "بِهِ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ. و "يسْتَهْزِئون" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النونِ في آخِرِهِ، لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، وجُمْلَةُ "يَسْتَهْزِئُونَ" في محلِّ النَّصْبِ خَبَرُ "كانَ". وجُمْلَةُ "كانَ" في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ المُقَدَّرَةِ مِنْ مَفْعُولِ "يَأْتِيهِمْ" إِذا كانَ المُرادُ بالإتْيانِ حُدوثَهُ، والتَقْديرُ: وَمَا يَأْتيهم رَسُولٌ إِلَّا حَالَةَ كَوْنِهم مُسْتَهْزِئينَ بِهِ، ويَجُوزُ أَنْ تَكونَ صِفَةً لِـ "رَسُولٍ" فَيَكونُ في مَحَلِّها وَجْهانِ؛ الجَرُّ باعْتِبَارِ المَحَلِّ، وإِذا كانَتْ حالًا فَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. أَوْ في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى أَنَّها صِفَةٌ لـ "رسول" فإنَّ مَحَلَّهُ الرَّفْعُ عَلَى الفاعِلِيَّةِ، أَيْ إِلَّا رَسُولٌ كانوا بِهِ يَسْتَهْزِئونَ، وأَمَّا الجرُّ عَلَى أَنَّها صِفَةٌ باعْتِبارِ لَفْظِهِ فيُفْضِي إِلَى زِيادَةٍ مِنَ الاسْتِغْراقِيَّةِ في الإثْباتِ، ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَنْصُوبًا عَلَى الوَصْفِيَّةِ بِأَنْ يُقَدَّرَ المَوْصوفُ مَنْصوبًا عَلَى الاسْتِثْناءِ، وإِنْ كانَ المُخْتَارُ الرَّفْعَ عَلَى البَدَلِيَّةِ.