وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ
(47)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} أَيْ: ولَقَدْ طَهَّرْنا قُلوبَ عِبادِنا المُتَّقينَ مِنَ الغِلِّ والحِقْدِ والكَرَاهِيَةِ والحَسَدِ، فاجْتَمَعُوا فِيها عَلَى المَحَبَّةِ الصَّافَيَةِ، والمودَّةِ الصَادقةِ. فَإنَّ المُؤْمِنينَ يُحْبَسُونَ عَلى بابِ الجَنَّةِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهم مِنْ بعضٍ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهمْ إِلَى الجَنَّةِ وَقَدْ نُقُّوا وَهُذِّبُوا، فَخَلُصَتْ نِيَّاتُهُم، وتطهَّرتْ بواطِنُهم مِنَ الأَحْقادِ. وَرَدَ ذَلِكَ في الحديثِ الصَّحيحِ الذي أَخْرَجَهُ البُخاريُّ: (2/861، بِرَقَم: 2308)، وَغَيْرُهُ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ سيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قَالَ إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا، وَهُذِّبُوا، أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا)). وأَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ: (3/63، بِرَقم: 11621)، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: (ص: 291، بِرَقم: 935)، وابْنُ حِبَّانٍ: (16/460، بِرَقم: 7434)، والحاكِمُ: (2/385، برقم: 3349) وقال: صَحيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. ووافَقَهُ الذَهَبِيُّ. كما أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو يَعْلَى: (2/404، بِرَقَم: 1186). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أَوَّلُ مَا يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ تُعْرَضُ لَهُمْ عَيْنَانِ، فَيَشْرَبُونَ مِنْ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ فَيُذْهِبُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ غِلٍّ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْعَيْنَ الْأُخْرَى فَيَغْتَسِلُونَ فِيهَا فَتُشْرِقُ أَلْوَانُهُمْ وَتَصْفُو وُجُوهَهُمْ، وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ، وَرُويَ نَحْوُهُ عَنْ أميرِ المؤمنينَ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
والْغِلُّ: هو الْحِقْدُ وَالْعَدَاوَةُ، ومِنْهُ يُقَالُ: غَلَّ يَغِلُّ. وَيُقَالُ أيضًا: مِنَ الْغُلُولِ، وَهُوَ السَّرِقَةُ مِنَ الفَيْءِ والْمَغْنَمِ: غَلَّ يَغُلُّ. وَيُقَالُ أيضًا مِنَ الْخِيَانَةِ: أَغَلَّ يُغِلُّ. قَالَ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَب:
جَزَى اللهُ عَنَّا حَمْزَةَ ابْنَةَ نَوْفَلٍ ................ جَزَاءَ مُغِلٍّ بِالْأَمَانَةِ كَاذِبِ
و "إِخوانًا" أَيْ كَحَالِ الْإِخْوَانِ فِي الدُّنْيَا. وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ فِيه أَصْحَابُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحَوَادِثِ الدَّافِعُ إِلَيْهَا اخْتِلَافُ الِاجْتِهَادِ فِي إِقَامَةِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَالشِّدَّةُ فِي إِقَامَةِ الْحَقِّ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ. وَعَنْ سيِّدِنا عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وعُثْمَانُ وطَلْحَةُ والزُّبَيْرُ مِنْهم. رِضْوانُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَقَالَ جَاهِلٌ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ اسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ الْأَعْوَرِ الْهَمَذَانِيُّ: كَلَّا، اللهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَجْمَعَكَ وَطَلْحَةَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ. فَقَالَ عَلِيٌّ: فَلِمَنْ هَذِهِ الْآيَةُ لَا أُمَّ لَكَ، بِفِيكَ التُّرَابُ. أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصورٍ، وأَبُو نُعَيْمٍ في الفِتَنِ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، والطَّبَرانيُّ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ. وَحُكِيَ عَنِ الْحَرْثِ بْنِ الْأَعْوَرِ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِذْ دَخَلَ زَكَرِيَّا بْنُ طَلْحَةَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ أَخِي، أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَأَبُوكَ مِمَّنْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: "وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ" فَقَالَ الْحَرْثُ: كَلَّا بَلِ اللهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَكَ وَطَلْحَةَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ. قَالَ ـ كرَّمَ اللهُ وجهَهُ، فَلِمَنْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ لَا أُمَّ لَكَ يَا أَعْوَرُ. وَأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، مِنْ طَرِيق لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبي أُمَامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ حَتَّى يَنْزِعَ اللهُ مَا فِي صُدُورِهمْ مِنْ غِلٍّ، وَحَتَّى أَنَّهُ لَيُنْزَعُ مِنْ صَدْرِ الرَّجُلِ بِمَنْزِلَةِ السَّبُعِ الضَّارِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبي أُمَامَة ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: يَدْخُلُ أَهْلُ الْجنَّةِ الْجَنَّةَ عَلَى مَا فِي صُدُورِهمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشَّحْناءِ والضَغَائنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَلا هَذِهِ الْآيَةَ: "إِخْوانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ" المُتَحَابِّينَ فِي اللهِ فِي الْجنَّةِ يَنْظُرُ بَعْضُهمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى إِذا نَزَلُوا وتَقَابَلُوا عَلَى السُّرُرِ نَزَعَ اللهُ مَا فِي صُدُورِهمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ غِلٍّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ أَميرِ المؤمنينَ عَلِيٍّ ـ كرَّمَ اللهُ وجهَهُ، قال: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غِلٍّ" الْعَدَاوَة. وَأَخرج ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضيَ اللهُ عنه، قالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يُحْبَسُ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْدَ مَا يَجُوزونَ الصِّرَاطَ حَتَّى يُؤْخَذَ لِبَعْضِهِم مِنْ بَعْضٍ ظُلاماتِهمْ فِي الدُّنْيَا وَيَدْخُلونَ الْجَنَّةَ وَلَيْسَ فِي قُلُوبِ بَعْضِهم عَلَى بَعْضٍ غِلٌّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ رَشِيدٍ قَالَ: يَنْتَهِي أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ يَتَلاحَظونَ تَلاحُظَ الغَيْرانِ، فَإِذا دَخَلُوها نَزَعَ اللهُ مَا فِي صُدُورِهمْ مِنْ غِلٍّ. لَقدْ بَيَّنَ ـ تَعَالَى، فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ أَنَّهُ نَزَعَ مَا فِي صُدُورِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْغِلِّ، فِي حَالِ كَوْنِهِمْ إِخْوَانًا، كَمَا بَيَّنَهُ أَيضًا في سُورَةِ الْأَعْرَافِ بقَوْلِهِ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} الآية: 43، فَزَادَ فيها أَنَّهُمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وهم فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ.
قوْلُهُ: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} السُّرُرُ: جَمْعُ سَرِيْرٍ، وَهُوَ مُحَمَلٌ كَالْكُرْسِيِّ مُتَّسِعٌ يُمْكِنُ الِاضْطِجَاعُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ السُّرُورِ، فَكَأَنَّهُ مَكَانٌ رَفِيعٌ مُمَهَّدٌ لِلسُّرُورِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهما: عَلَى سُرَرٍ مُكَلَّلَةٍ بِالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالدُّرِّ. ويَجُوزُ في "سُرُر" ونَحْوِهِ مِمَّا جُمِعَ عَلَى هَذِهِ الصِيغَةِ مِنْ مُضَاعَفِ (فَعِيل) فَتْحُ العَيْنِ تَخْفيفًا، وَهِيَ لُغَةُ كَلْبٍ وتَميمٍ، فَيَقولونَ: سُرَرٌ وَذُلَلٌ فِي جَمْعِ: سَريرٍ وَذَليلٍ. وَ "مُتَقَابلين" جَالسينَ الْوَاحِدِ قُبَالَةَ الآخَرِ، وَهُوَ أُدْخِلَ فِي التَّأَنُّسِ بِالرُّؤْيَةِ وَالْمُحَادَثَةِ. يُبَيِّنَ ـ سُبْحانَهُ، أَنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّما يَكُونُونَ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلينَ لِيَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى وَجْهِ بَعْضٍ، كما وَصَفَ سُرُرَهُمْ بِصِفَاتٍ جَمِيلَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فقَالَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} الآيتانِ: (15 و 16)، ومِنْ هَذِهِ الصِّفات أَنَّهَا مَنْسُوجَةٌ بِقُضْبَانِ الذَّهَبِ وَهِيَ الْمَوْضُوعَةُ، وَقِيلَ: الْمَوْضُونَةُ الْمَصْفُوفَةُ، كَقَوْلِهِ في سُورةِ الطُّورِ: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} الْآيَةَ 20، وَمِنْهَا أَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ كَما جاءَ فِي الْغَاشِيَةِ قَوْلُهُ: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} الْآيَةَ: 13، وَكقَوْلِهِ فِي سورةِ الْوَاقِعَةِ: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} الآية: 34، وَكقَوْلِهِ في سُورةِ الرحمن: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} الآية: 76، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وجاءَ فِي بَعْضِ الأَخْبَارِ: إِنَّ المُؤْمِنَ فِي الجَنَّةِ إِذا وَدَّ أَنْ يَلْقَى أَخَاهُ المُؤْمِنَ، سَارَ سَرِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُما إِلَى صَاحِبِهِ فَيَلْتَقِيانِ وَيَتَحَدَّثانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: أَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنْظُرُ بَعْضُهم فِي قَفَا بَعْضٍ، ثمَّ قَرَأَ {مُتَّكِئينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ}. وَأَخْرَجَ هَنَّاد، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رضيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "عَلى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ" قَالَ: لَا يَرَى بَعْضُهمْ قَفَا بَعْضٍ. قِيلَ: إِنَّ الْأَسِرَّةُ التي يتَّكئونَ عليها تَدُورُ كَيْفَمَا يَشَاؤونَ، فَلَا يَرَى أَحَدٌ منهم قَفَا أَحَدٍ.
وورَدَ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ أَنَّها نَزَلتْ في أَهْلِ بَدْرٍ مِنْ صَحابَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقدْ أَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ـ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وكرَّمَ وَجْهَهُ: فِينَا وَاللهِ أَهْلَ بَدْرٍ نَزَلَتْ "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل إخْوَانًا عَلى سُرُرٍ مُتَقَابِلينَ". وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُلَيْلٍ عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ الله عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ مِنْ غِلٍّ" قَالَ: نَزَلَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَحْيَاءٍ مِنْ الْعَرَبِ: فِي بَني هَاشِمٍ، وَبَني تَيْمٍ، وَبَني عَدِيٍّ، وَفِي أَبي بَكْرٍ، وَفِي عُمَرَ ـ رَضِي الله عَنهُما. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِر، عَنْ كَثيرٍ النَّوَّاءِ، وهو مِنْ أَجلادِ الشِيعَةِ، قَالَ: قُلْتُ لأَبي جَعْفَرَ الباقرِ: إِنَّ فلَانًا حَدَّثَنِي عَنْ عَليِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ مِنْ غِلٍّ" قَالَ: وَاللهِ إِنَّهَا لَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ، وفِيمَنْ تَنْزِلُ إِلَّا فِيهم. قُلْتُ: وَأَيُّ غِلٍّ هُوَ؟. قَالَ: غِلُّ الْجَاهِلِيَّةِ، إِنَّ بَنِي تَيْمٍ، وَبني عَدِيٍّ، وَبَني هَاشِمٍ كَانَ بَينَهم فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا أَسْلَمَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، تَحَابُّوا، وَأَخَذَتْ أَبَا بَكْرٍ الخاصِرَةُ فَجَعَلَ عَلِيٌّ يُسَخِّنُ يَدَهُ فَيَكْوِي بِهَا خاصِرَةَ أَبي بَكْرٍ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ عَلِيٍّ ـ كرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، قَالَ: إِنِّي لَأَرْجو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ وَالزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ مِمَّنْ قَالَ اللهُ فيهم: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ مِنْ غِلٍّ". وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ مِنْ غِلٍّ" الْآيَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ. وَأَخْرَجَ الشِّيرَازِيُّ فِي الأَلْقابِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُما: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ مِنْ غِلٍّ" قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَشَرَةٍ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدٍ، وَسَعِيدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُم. وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشيرٍ عَنْ عَلِيٍّ ـ رضيَ اللهُ عنهُما: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ مِنْ غِلٍّ" قَالَ: ذَاكَ عُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَأَنَا. رَضِيَ اللهُ عنهم أَجمعينَ وأَرْضَاهم.
قولُهُ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} الوَاوُ: اسْتِئنافيَّةٌ، و "نَزَعْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ الظاهِرِ على آخِرِهِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المعظِّمِ نَفسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، و "نَا" التَّعْظيمِ ضَمِيرٌ متَّصِلٌ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، و "ما" اسْمٌ مَوْصولٌ، أَوْ نَكِرةٌ مَوْصوَفةٌ، مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، و "فِي" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِصلَةِ "مَا" أَوْ صِفَتِها، و "صُدُورِهِمْ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنَ الضَميرِ المُسْتَكِنِّ في الجَارِّ والمَجْرورِ قَبْلَهُ، و "غِلٍّ" مَجرورٌ بحرفِ الجرِّ.
قولُهُ: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} إِخْوَانًا: منصوبٌ على الحَالِ مِنْ ضَميرِ الغائِبينَ في "صدورِهم"؛ لأَنَّ المُضافَ جُزْءٌ مِنَ المُضافِ إِلَيْهِ، فَيَجوزُ مَجيءُ الحالِ مِنَ المُضافِ إِلَيْهِ، والعامِلُ فِيها مَعْنَى الإِلْصاقِ. قالَ أَبو البَقاءِ: ويَجوزُ أَنْ يَكونَ حَالًا مِنْ فاعِلِ "ادْخُلوها" عَلَى أَنَّها حالٌ مُقَدَّرةٌ. ولا حاجَةَ إِلَيْهِ، بَلْ هِيَ حالٌ مُقارِنَةٌ، ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ حالًا مِنَ الضَمِيرِ في {آمِنين}، وأَنْ يَكونَ حالًا مِنَ الضَّميرِ في قولِهِ {فِي جَنَّاتٍ}. و "عَلَى" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنَ الضَميرِ في "إِخْوَانًا"، قال أبو البقاء: ويجوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِنفسِ "إخْوانًا" لأنَّهُ بمعنى مُتَصافِّيْنَ عَلَى سُرُرٍ. وَفيهِ نَظرٌ مِنْ حيثُ تأويلُ جامدٍ بِمُشْتَقٍّ بَعيدٍ مٍنْهُ. و "متقابلين" عَلى هَذَا حالٌ مِنَ الضَّميرِ في "إِخوانًا"، ويَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لـ "إِخْوانًا"، وعَلَى هَذَا فإنَّ "مُتقابلين" هو حالٌ مِنَ الضميرِ المُسْتَكِنِّ في الجارِّ. ويَجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِـ "مُتقابلين"، أَيْ: مُتَقابِلينَ عَلى سُرُرٍ، وَعَلَى هَذا فإنَّ "مُتَقَابلين" حالٌ مِنَ الضَميرِ في "إِخْوانًا"، أَوْ صِفَةٌ لـ "إِخْوانًا"، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى المَدْحِ، يَعْني أَنَّهُ لا يُمْكِنُ أَنْ يَكونَ نَعْتًا للضَميرِ فَلِذَلِكَ قُطِعَ. و "سُرُرٍ" اسمٌ مَجْرورٌ بِحرفِ الجَرِّ. و "مُتَقَابِلِينَ" مَنْصُوبٌ عَلى الحالِ مِنَ الضَميرِ المُسْتَكِنِّ في الجارِّ والمَجْرورِ قَبْلَهُ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ جَمْعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ الَتنْوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ.