الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 32
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} إِبْلِيسُ: اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الإِبْلاسِ، وَفِعْلُهُ: أَبْلَسَ، ومصْدَرُهُ: الإبْلاسُ وهوَ الحُزْنُ الشَديدُ النَّاشِئُ عَنِ اليَأْسِ والقُنُوطِ، وهوَ اسْمٌ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ للعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ. وَقَدْ أَخْطَأَ مَنْ قالَ هو عبارةٌ عنْ داعي الشَّرِّ الذي يَخْطُرُ في النُّفُوسِ، لأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ المَعْقولِ أَنْ يَكونَ كَذَلِكَ وقد أَخْبَرَ القُرْآنُ بَأَنَّهُ يَرانا ولا نَرَاهُ فقالَ تعالى في الآيةِ: 27، مِنْ سورةِ الأَعْرافِ: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}. وهذا خطابٌ مُوَجَّهٌ مِنْهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، إِلى إبْليسَ ـ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ، فَقَدْ سَأَلَهُ وَحَالُهُ مَعْلُومٌ لَهُ عِنْدَمَا لَمْ يَسْجُدْ لآدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مُخالِفًا بِذَلِكَ أَمَرَ رَبِّهِ ـ جَلَّ جَلالُهُ العَظِيمُ. والمَعْنَى: أَيُّ سَبَبٍ مَنَعَكَ يا إِبْليسُ مِنَ السُجودِ لِمَا خَلَقْتُ، كَمَا أَمَرْتُكَ؟. وهَذَا اسْتِئْنافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى سُؤالٍ قَدْ يَقُولُهُ قائلٌ وهُوَ: فَمَاذا قالَ الرَّبُّ ـ سُبْحانَهُ، عِنْدَما أَبى إبْليسُ السُّجودَ لآدَمَ؟. فَقِيلَ في الجوابِ: عِنْدَ ذَلِكَ قالَ الرَّبُّ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى: "يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ"؟. وكأَنَّ في صِيغَةِ الاسْتِقْبالِ هَذِهِ إِيماءٌ إِلى قُبْحِ حالِ إِبْلِيسَ ـ أَخزاهُ اللهُ تَعَالَى، ولَعَلَّ هَذا التَوْبِيخَ لإِبْليسَ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ تَخَلُّفِهِ عَنْ أُولئِكَ المَلائكَةِ الكِرامِ الذينَ سَجَدُوا لآدَمَ طاعَةً للهِ تَعَالى، بَلْ هُوَ أَيْضًا لأُمُورٍ أُخْرَى جاءَ ذِكْرُها مُتَفَرِّقًا في كِتَابِ اللهِ تَعَالى، وكُلٌّ مِنْها كافٍ لَتَوْبيخِهِ والتَشْنَيعِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ مَا ارْتَكَبَ مِنْ مُخالَفَةِ خالِقِهِ العظيمِ ومَوْلاهُ الكريمِ، وعِصْيانِ أَمْرِهِ. ولا يَخْفَى أَنَّ خِطابَ اللهِ تَعَالَى لَهُ بِغَيْرِ واسِطَةٍ هُوَ مَرْتَبةٌ عَالِيَةٌ لوْ كانَ هَذَا الخِطابُ عَلَى سَبِيلِ التَكْريمِ والتعْظِيمِ، لا عَلَى سَبِيلِ الإِذْلالِ والإِهانَةِ.
قولُهُ تَعَالى: { قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} قَالَ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ الظاهِرِ على آخِرِهِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالى، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. و "يَا" أَداةٌ للنِّداءِ، و "إِبْلِيسُ" مُنَادَى مَبْنِيٌّ عَلى الضَمِّ في مَحَلِّ النَّصْبِ مُفْرَدٌ عَلَمٌ، وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قَالَ". و "مَا" اسْمُ اسْتِفْهامٍ للتَوْبيخِ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِدَاءِ، و "لَكَ" اللامُ حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ المُبْتَدَأِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، وهذه الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ أَيضًا بِـ "قَالَ" عَلَى كَوْنِها جَوابَ النِّداءِ. و "أَلَّا" هيَ "أَنْ" حَرْفُ نَصْبِ مَصْدَرِيٌّ، و "لا" النافِيَةُ، و "تَكُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ نَاقِصٌ مَنْصوبٌ بِـ "أنْ"، واسْمُها ضَميرٌ مُسْتترٌ فيها وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعودُ عَلى "إبليس"، "مَعَ" منصوبٌ على الظرفيَّةِ المكانيَّةِ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "تَكُونَ"، وهوَ مُضافٌ، و "السَّاجِدِينَ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، وجُمْلَةُ "تَكُونَ" في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذوفٍ، والتَقديرُ: مَا لَكَ فِي عَدَمِ كَوْنِكَ مَعَ السَّاجِدينَ، وهذا الجارُّ مُتَعَلِّقٌ بالاسْتِقْرارِ الذي تَعَلَّقَ بِهِ الخَبَرُ.