قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ
(57)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} أَيْ: ما هوَ الأمرُ الخطيرُ والشَّأْنُ الكَبيرِ الذي أُرْسِلْتُمْ مِنْ أَجْلِ نَفَاذِهِ سِوَى البِشَارَةِ التي حَمَلْتُمُوها إِلَيَّ وبَشَّرتمونِي بِها. فإنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى، وعَلِمَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ ـ إِذْ أَخْبَرُوهُ بِأَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ وَهُوَ بُشْرَاهُمْ بِالْوَلَدِ في هذهِ السِّنِّ المتقدَّمةِ، شَرَعَ يَسْأَلُهُمْ عَمَّا جَاءُوا لَهُ، ومَا سَبَبُ نُزُولِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يُؤْمَرونَ بالنُزولِ إلى الأرضِ إِلَّا في أَمْرٍ عَظِيمٍ. قَالَ تَعَالَى في الآية: 8، السَّابِقَةِ مِنْ هذِهِ السُّورَةِ المُباركةِ: {مَا تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ}. فَقَدْ نُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ لِاسْتِئْصَالِ سَادَةِ الْمُشْرِكِينَ وَرُؤَسَائِهِمْ مِنْ قريشٍ، كما نُزِّلوا مِنْ قبلُ في أَمثالِها مِنَ الأُمُورِ الخَطِيرَةِ، والشُّؤُونِ العَظِيمَةِ. وَسُؤَالُ إبراهيمَ ـ عليهِ السلامُ، "فما خطْبُكم" فيهِ عُنْفٌ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُنْكِرُ حالَهُ: (ما دَهَاكَ؟) و (مَا مُصِيبَتُكَ؟) وَأَنْتَ إِنَّما تُريدُ الاسْتِفْهَامَ عَنْ حالِهِ فَقَطْ. لأَنَّ كلمةَ (خَطْب) إِنَّما تُسْتَعْمَلُ في الأُمُورِ الجسامِ والشَّدِادِ، وَقَدْ أَضَافَ الخَطْبَ إِلَيْهم بقولِهِ: "فَما خَطْبُكُمْ" مِنْ حَيْثُ أَنَّهُمْ حَمَلَة ُهذا الخَطْبَ إِلَيْهِمْ. والخَطْبُ هوَ الحَدَثُ الجَلَلُ سُمِّيَ خَطْبًا لأَنَّهُ يَشْغَلُ بالَ النَّاسِ جَمِيعًا فَيَتَخَاطَبُونَ بِهِ ويتبادلونَ الحديثَ فيهِ، ويتناقلونَ أَخبارَهُ، ويُحَلِّلونَ أَسْبابَهُ ونَتَائِجَهُ.
قولُهُ تَعَالَى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتْحِ، وفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى إِبْراهيمَ ـ عليهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، و "فَمَا" الفاءُ: هي الفَصيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتُمْ مَا قُلْتُ لَكُمْ، وأَرَدْتُمْ زِيَادَةَ مُحَاوَرَتي لَكم. فَأَقُولُ لَكُمْ: "ما خَطْبُكم"، و "ما" اسْمُ اسْتِفْهامٍ للاسْتِخْبَارِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "خَطْبُكُمْ" خَبَرُهُ مرفوعٌ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بٍهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ، وهذه الجُملةُ الاسميَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِجَوابِ "إذا" المُقَدَّرِ، وَجُمْلَةُ "إذا" المُقَدَّرَةِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قَالَ". و "أَيُّهَا" مُنَادَى نَكِرَةٌ مَقْصودَةٌ، مبنيَّةٌ على الضَم في محلِّ النَّصبِ على النداءِ، والهاءُ: للتنبيهِ. و "الْمُرْسَلُونَ" صِفَةٌ لِـ "أَيُّ" مرفوعةٌ تَبَعًا للفْظِهِ، وعلامةُ الرَّفْعِ، الواوُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التَنْوينِ في الاسْمِ المُفردِ.