الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الحجر، الآية: 75
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أَيْ: إِنَّ فِي ذِكْرِ قِصَصِ الأُمَمِ السَّابِقَةِ كَتِلْكَ التي تَقَدَّمَ ذِكْرُها عنْ قومِ لُوطٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَعِظَةً وَعِبْرَةً للمُؤْمِنِينَ الفَطِنِينَ الذينَ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى هِدَايَتَهُمْ، فأَنَارَ عُقُولَهُمْ ونوَّرَ بَصَائرَهمْ، فاتَّعَظُوا بِغَيْرِهِمْ. وتَلَمَّسُوا طَرَيقَ نَجَاتِهم ونَجَاحاتِهم. وَ "الآياتُ" مَعْنَاهَا الدَّلالاتُ، والعَلاماتُ التي يُتَّعَظُ بِهَا، ويُسْتدَلُّ عَلَى حَقائقِ الأَشْيَاءِ، وبَواطِنِ الأُمُورِ. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ" قَالَ: عَلامَة، أَمَا تَرَى الرَّجُلَ يُرْسِلُ بِخَاتَمِهِ إِلَى أَهْلِهِ فَيَقُولُ: هاتُوا كَذَا وَكَذَا، فَإِذا رَأَوْهُ عَرَفُوا أَنَّهُ حَقٌّ.
و "الْمُتَوَسِّمِينَ" جَمْعٌ مُفْرَدُهُ: مُتَوَسِّمٌ، وهُوَ الذي يَسْتَنْبِطُ مِنْ ظَاهِرِ الأُمُورِ حَقِيقَةَ بَواطِنِها، كَمَا قِيلُ: (هُوُ الذي يُدْرِكُ حَقائقَ المَسْتُورِ بِمَكْشُوفِ المَظْهُور). وَالْمُتَوَسِّمُونَ أَصْحَابُ التَّوَسُّمِ، وَهُوَ التَّأَمُّلُ فِي السِّمَةِ، أَيِ: الْعَلَامَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْلَمِ. وَالْمُرَادُ الْمُتَأَمِّلونَ فِي الْأَسْبَابِ وَعَوَاقِبِهَا، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَالْمُتَوَسِّمُ: هوَ النَّاظِرُ فِي السِّمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الحَقِيقَةِ، فتَقُولُ: تَوَسَّمْتُ فِي فُلَانٍ كَذَا، أَيْ: عَرَفْتُ وَسْمَ ذَلِكَ وَسِمَتَهُ فِيهِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: التَّوَسُّمُ تَفَعُّلٌ مِنَ الْوَسْمِ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَطْلُوبٍ غَيْرِهَا. يُقَالُ: تَوَسَّمْتُ فِيهِ الْخَيْرَ إِذَا رَأَيْتُ مِيسَمَ ذَلِكَ فِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، في النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنِّي تَوَسَّمْتُ فِيكَ الْخَيْرَ أَعْرِفُهُ ............. والله يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ الْبَصَرِ
وقالَ أَعرابيٌّ يمدحُ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ الْعَبَّاسِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما:
تَوَسَّمْتُهُ لَمَّا رَأَيْتُ مَهَابَةً .............. عَلَيْهِ وَقُلْتُ: الْمَرْءُ مِنْ آلِ هَاشِمِ
وللبيتِ قِصَّةٌ ذَكَرَهَا أَبُو الفَرَجِ النَهْرَوَانِيُّ: (المُتَوَفَّى: 390هـ) صاحِبُ (الجَليسُ الصَّالِحُ الكافِي والأَنِيسُ النَّاصِحُ الشَّافي، ص: 176) نَنْشُرُها تَعْمِيمًا للفَائدَةِ، قَالَ: وَفَدَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْعَبَّاسِ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبي سُفْيَان ـ رَضِيَ اللهُ عنهم، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَارَضَتْهُ سَحَابَةٌ، فأمَّ أَبْيَاتًا مِنَ الشِّعْرِ، فَإِذا هُوَ بِأَعْرَابيٍّ قَدْ قَامَ إِلَيْهِ، فَلَمّا رَأَى هَيْئَتَهُ وبَهَاءَهُ ـ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ شَارَةً، وَأَحْسَنِهِمْ هَيْئَةً، قَامَ إِلَى عُنَيْزَةٍ لَهُ لِيَذْبَحَها، فجَاذَبَتْهُ امْرَأَتُهُ، وَمَانَعَتْهُ، وَقَالَتْ: أَكَلَ الدَّهْرُ مَالَكَ، وَلَمْ يُبْقِ لَكَ وَلِبَناتِكِ إِلَّا هَذِهِ الْعُنَيْزَةَ، يَتَمَتَّعُونَ مِنْهَا، ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَفْجَعَهُنَّ بِهَا، فَقَالَ: وَاللهِ لأَذْبَحَنَّها، فَذَبْحُها أَحْسَنُ مِن اللُّؤْمِ، قَالَتْ: إِذًا وَاللهِ لَا تُبْقِي لِبَنَاتِكَ شَيْئًا فَأَخَذَ الْعُنَيْزَةَ وَأَضْجَعَهَا، وَقَالَ:
قَرِينَتِي لَا تُوقِظي بُنَيَّهْ ........................ إِنْ تُوقظيها تَنْتَحِبْ عَلَيْهْ
وتَنْزَعِ الشَّفْرَةَ مِنْ يَدَيَّهْ .......................... أَبْغِضْ بِهَذَا وبِذَا إِلَيَّهْ
ثُمَّ ذَبَحَ الشَّاةَ، وَأَضْرَمَ نَارًا وَجَعَلَ يَقْطَعُ مِنْ أَطَايِبِها، وَيُلْقِيهِ عَلَى النَّارِ، ثُمَّ يُنَاوِلُهُ عُبَيْدَ اللهِ، ويُحَدِّثُهُ فِي خِلالِ ذَلِكَ بِمَا يُلْهِيهِ وَيُضْحِكُهُ، حَتَّى إِذا أَصْبَحَ عُبَيْدُ اللهِ، وانْجَلَتِ السَّحابَةُ، وَهَمَّ بالرَّحِيلِ، قَالَ لِقَيِّمِهِ: مَا مَعَكَ؟. قَالَ: خَمْسُ مِئَةِ دِينَارٍ، قَالَ: أَلْقِها إِلَى الشَّيْخِ، قَالَ: القَيِّمُ: جُعِلْتُ فِداكَ، إِنَّ هَذَا يُرْضِيهِ عُشْرُ مَا سَمَّيْتَ، وَأَنْتَ تَأْتي مُعَاوِيَةَ، وَلَا تَدْرِي عَلَى مَا تُوافِقُهُ، عَلَى ظَاهِرِهِ أَمْ عَلَى بَاطِنِهِ، قَالَ: وَيْحَكَ إِنَّا نَزَلْنَا بِهَذَا وَمَا يَمْلِكُ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا هَذِهِ الشَّاةَ، فَخَرَجَ لَنَا مِنْ دُنْيَاهُ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا جُدْنَا لَهُ بِبَعْضِ دُنْيَانَا، فَهُوَ أَجْوَدُ مِنَّا، ثُمَّ ارْتَحَلَ، فَأَتَى مُعَاوِيَةَ، فَقَضَى حَوَائِجَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، وَقَرُبَ مِنْ رَحْلِ الأَعْرَابِيِّ، قَالَ لِوَكِيلِهِ: انْظُرْ مَا حَالُ صَاحِبِنَا، فَعَوَّلَ إِلَيْهِ، فَإِذا إِبِلٌ وَحَالٌ حَسَنَةٌ، وَشَاءٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا بَصُرَ الأَعْرَابِيُّ بِعُبَيْدِ اللهِ قَامَ إِلَيْهِ، فَأَكَبَّ عَلَى أَطْرَافِهِ يُقَبِّلُهَا، ثُمَّ قَالَ: بِأَبي أَنْتَ وَأُمِّي، قَدْ مَدَحْتُكَ وَمَا أَدْرِي مِنْ أَيِّ خَلْقِ اللهِ أَنْتَ، ثُمَّ أَنْشَدَهُ:
تَوَسَّمْتُهُ لَمَّا رَأَيْتُ مَهَابَةً ............. عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: المَرْءُ مِنْ آلِ هَاشِمِ
وإِلَّا فَمِنْ آلِ الْمُرَارِ فَإِنَّهُمُ ................ مُلُوكٌ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ الأَكارِمِ
فَقُمْتُ إِلَى عَنْزٍ بَقِيَّةِ أَعْنُزٍ ................ فَأَذْبَحُها فِعْلَ امْرِئٍ غَيْرِ نَادِمِ
فَعَوَّضَني مِنْهَا غِنَايَ وإِنَّمَا ........... يُسَاوِي لُحَيْمَ العَنْزِ خَمْسُ دَرَاهِمِ
أَفَدْتُ بِهَا أَلْفًا مِنَ الشَّاءِ حُلَّبًا ........... وعَبْدًا وَأُنْثَى بَعْدَ عَبْدٍ وخَادِمٍ
مُبَارَكَةٌ مِنْ هَاشِمِيٍّ مُبَارَكٍ ................ خِيَارُ بَنِي حَوَّاءَ مِنْ نَسْلِ آدَمِ
قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: قَدْ أَصَبْتَ، وَأَنَا مِنْ وُلَدِ الْعَبَّاسِ، وَأَنَا مِنْ آلِ المُرارِ، فبَلَغَتْ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: للهِ دَرُّ عُبَيْدِ اللهِ، مِنْ أَيِّ بَيْضَةٍ خَرَجَ، وَفِي أَيِّ عُشٍّ دَرَجَ، عُبَيْدُ اللهِ مُعَلِّمُ الْجُودِ، وَهُوَ وَاللهِ كَمَا قَالَ الحُطَيْئَةُ:
أُولَئِكَ قومٌ إِنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبِنا .... وَإِنْ عَاهَدُوا أَوْفَوْا وَإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا
وَإِن كَانَتِ النُّعْمَى عَلَيْهِمْ جَزَوْا بهَا ..... وَإِنْ انْعَمُوا لَا كَدَّرُوها وَلَا كَدُّوا
وكانَ عُبَيْدُ اللهِ مِنْ أجودِ الناسِ، وَكَانَ يُقَالُ: مَنْ أَرَاد الجَمَالَ وَالفِقْهَ والسَّخَاءَ فَلْيَأْتِ دَارَ الْعَبَّاسِ، الجَمَالُ للفَضْلِ، والفِقْهُ لِعَبْدِ اللهِ، والسَّخَاءُ لِعُبَيْدِ اللهِ. وَفيهِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ لَمْ تَرْدَعْهُمُ النُذُرُ، ولا زَجَرَتْهُمُ الْعِبَرُ، لأَنَّهُمْ دُونَ مَرْتَبَةِ النَّظَرِ، وهُمُ الْمُشْرِكِونَ الَّذِينَ لَمْ يَتَّعِظُوا بِأَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ البائدَةِ مِنْ قَبْلِهِمْ، مَعَ أَنَّهمْ عَرَفُوا أَخْبَارَهَم وَرَأَوْا آثَارَهَم. وقِيلَ: المُتَوَسِّمُونَ هُمُ الْمُتَفَرِّسِونَ، جاءَ ذَلِكَ عَنْ مُجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ السُنِّيِّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مَعًا فِي الطِّبِّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهَ، والخَطِيبُ البغداديُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((اتَّقُوا فِراسَةَ المُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ)). ثُمَّ قَرَأَ: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ"، قَالَ: المُتَفَرِّسِينَ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ جَعْفَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلَهَ تَعالى: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ"، قَالَ: هُمُ المُتَفَرِّسُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ)).
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ ثَوْبَان ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((احْذَرُوا فِراسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ، ويَنْطِقُ بِتَوْفِيقِ اللهِ)).
وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ السُنِّيِّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ للهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بالتَوَسُّمِ)). وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ زَيْدٍ "لِلْمُتَوَسِّمِينَ" لِلْمُتَفَكِّرِينَ. ومنْهُ قَولُ الشَّاعِرِ طَرِيفِ بْنِ تَمِيمٍ الْعَنْبَرِيِّ:
أَوَ كُلَّمَا وَرَدَتْ عُكَاظَ قَبِيلَةٌ ................. بَعَثُوا إليَّ عَرِيفَهُمْ يَتَوَسَّمُ
وقال الضَّحَّاكُ: لِلنَّظَّارِينَ. َأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "لَآيَاتٍ للمُتَوَسِّمينَ" قَالَ: للنَّاظِرينَ. ومن ذلك قَولُ زُهَيْرِ بْنِ أَبي سُلْمى:
وَفِيهِنَّ مَلْهًى لِلصَدِيقِ وَمَنْظَرٌ ................ أَنِيقٌ لِعَيْنِ النَّاظِرِ الْمُتَوَسِّمِ
وَقَالَ ثَعْلَبُ: الْوَاسِمُ النَّاظِرُ إِلَيْكَ مِنْ فَرْقِكَ إِلَى قَدَمِكَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لِلْمُتَبَصِّرِينَ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَاتَّسَمَ الرَّجُلُ جَعَلَ لِنَفْسَةِ عَلَامَةً يُعْرَفُ بِهَا. وَتَوَسَّمَ الرَّجُلُ طَلَبَ كلَأَ الوَسْمِيِّ. وَقالَ النابغةُ الجَعدِيُّ:
وَأَصْبَحْنَ كَالدَّوْمِ النَّوَاعِمِ غُدْوَةً .......... عَلَى وِجْهَةٍ مِنْ ظَاعِنٍ مُتَوَسِّمِ
وَأَصْلُ التَّوَسُّمِ التَّثَبُّتِ وَالتَّفَكُّرِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَسْمِ وَهُوَ التَّأْثِيرُ بِحَديدَةٍ فِي جِلْدِ البَعِيرِ وَغَيْرِهِ، وذَاكَ يَكُونُ بِجَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ وَحِدَّةِ الْخَاطِرِ وَصَفَاءِ الْفِكْرِ. وزَادَ غَيْرُهُ: وَتَفْرِيغُ الْقَلْبِ مِنْ حَشْوِ الدُّنْيَا، وَتَطْهِيرُهُ مِنْ أَدْنَاسِ الْمَعَاصِي وَكُدُورَةِ الْأَخْلَاقِ وَفُضُولِ الدُّنْيَا. رَوَى نَهْشَلٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: "لِلْمُتَوَسِّمِينَ" قَالَ: لِأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ. وَهيَ كَرَامَةٌ مِنَ اللهِ يكرمُ بها مَنْ شاءَ مِنْ أَولِيائهِ. وَقِيلَ: بَلْ هِي اسْتِدْلالٌ بالعَلاماتِ ـ كما تَقَدَّمَ، وَمِنَ الْعَلَامَاتِ مَا يَبْدُو ظَاهِرًا لِكُلِّ أَحَدٍ وَبِأَوَّلِ نَظْرَةٍ، وَمِنْهَا مَا يَخْفَى فَلَا يَبْدُو لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يُدْرَكُ بِبَادِئِ النَّظَرِ. قَالَ الْحَسَنُ البَصْريُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الْمُتَوَسِّمُونَ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَسَّمُونَ الْأُمُورَ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي أَهْلَكَ قَوْمَ لُوطٍ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُهْلِكَ الْكُفَّارَ، فَهَذَا مِنَ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَةِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: مَا سَأَلَنِي أَحَدٌ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا عَرَفْتُ أَفَقِيهٌ هُوَ أَوْ غَيْرُ فَقِيهٍ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ـ رَحِمَهُما اللهُ، أَنَّهُمَا كَانَا بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَرَجُلٌ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَرَاهُ نَجَّارًا، وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ حَدَّادًا، فتَبَادَرَ مَنْ حَضَرَ إِلَى الرَّجُلِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: كُنْتُ نَجَّارًا، وَأَنَا الْيَوْمَ حَدَّادٌ. وَرُوِيَ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَتَى عَلَى رَجُلٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَوَقَفَ فَقَالَ: مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ. فَقُلْنَا لَهُ: كَأَنَّكَ عَرَّضْتَ بِهَذَا الرَّجُلِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَقْرَأُ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ الْيَوْمَ وَيَخْرُجُ غَدًا حَرُورِيًّا، فَكَانَ رَأْسَ الْحَرُورِيَّةِ، وَاسْمُهُ مِرْدَاسٌ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ فِتْيَانِ الْبَصْرَةِ إِنْ لَمْ يُحْدِثْ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مِنَ الْقَدَرِ مَا كَانَ، حَتَّى هَجَرَهُ عَامَّةُ إِخْوَانِهِ. وَقَالَ لِأَيُّوبَ: هَذَا سَيِّدُ فِتْيَانِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِدَاوُدَ الْأَزْدِيِّ وَهُوَ يُمَارِيهِ: إِنَّكَ لَا تَمُوتُ حَتَّى تُكْوَى فِي رَأْسِكَ، وَكَانَ كَذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، دَخَلَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ مِذْحَجٍ فِيهِمُ الْأَشْتَرُ، فَصَعَّدَ فِيهِ النَّظَرَ وَصَوَّبَهُ وَقَالَ: أَيُّهُمْ هَذَا؟ قَالُوا: مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ. فَقَالَ: مَا لَهُ قَاتَلَهُ اللهُ! إِنِّي لَأَرَى لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ يَوْمًا عَصِيبًا، فَكَانَ مِنْهُ فِي الْفِتْنَةِ مَا كَانَ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، دَخَلَ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ مَرَّ بِالسُّوقِ فَنَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ عُثْمَانُ: يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ عَلَيَّ وَفِي عَيْنَيْهِ أَثَرُ الزِنَى. فَقَالَ لَهُ أَنَس: أَوَحْيًا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟. فَقَالَ لَا، وَلَكِنْ بُرْهَانٌ وَفِرَاسَةٌ وَصِدْقٌ. وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّوَسُّمَ وَالتَّفَرُّسَ مِنْ مَدَارِكِ الْمَعَانِي فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ مَوْسُومٌ وَلَا مُتَفَرَّسٌ. وَقَدْ كَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّامِيُّ الْمَالِكِيُّ بِبَغْدَادَ أَيَّامَ كَوْنِي بِالشَّامِ يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ فِي الْأَحْكَامِ، جَرْيًا عَلَى طَريقِ إِيَّاسِ ابْنِ مُعَاوِيَةَ أَيَّامَ كَانَ قَاضِيًا،
والفِرَاسَةُ خاطِرٌ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعارِضَهُ مَا يُخَالِفُهُ عِنْدَ ظُهُورِ بُرْهانٍ عَلَيْهِ، فيَخْرُجُ مِنَ القَلْبِ عَيْنُ مَا يَقَعُ لِصَاحِبِ الفِرَاسَةِ. والفِرَاسَةُ مُشْتَقٌّ مِنَ الفَريسَةِ.
وَقِيلَ: هُمُ الْمُتَفَكِّرِونَ، قالَهُ مُقَاتِلٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي العَظَمَةِ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: "لآيَاتٍ للمُتَوَسِّمينَ" قَالَ: للمُعْتَبِرينَ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُتَبَصِّرِونَ. وقَالَ الزَّجَّاجُ: حَقِيقَةُ "الْمُتَوَسِّمِينَ" فِي اللُّغَةِ: الْمُتَثَبِّتُونَ فِي نَظَرِهِمْ حَتَّى يَعْرِفُوا سِمَةَ الشَّيْءِ وَصِفَتَهُ وَعَلَامَتَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي (العَظَمَةِ)، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لآيَاتٍ للمُتَوَسِّمينَ" قَالَ: للمُعْتَبِرِينَ. أَيْ: إِنَّ الَّذِي صَنَعْنَاهُ بِقَوْمِ لُوطٍ مِنَ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ، وَإِنْجَائِنَا لُوطًا ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَأَهْلَهُ مَعَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ، لَدَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ جَلِيَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ.
قولُهُ تَعَالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} إِنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَوْكيدِ. و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ لِـ "إنَّ"، و "ذَلِكَ" ذا: اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بِحَرفِ الجرِّ، واللامُ للبُعدِ والكافُ للخِطابِ. و "لَآيَاتٍ" اللامُ: المُزَحْلَقَةُ للتوكيدِ (حرفُ ابْتِداءٍ)، و "آيَاتٍ" اسْمُ "إنَّ" مُؤَخَّرٌ، منصوبٌ بها، وعلامةُ نَصْبِهِ الكسْرُ بدلًا مِنَ الفتْحِ لأنَّهُ جمعُ المؤنَّثِ السالمُ. و "لِلْمُتَوَسِّمِينَ" اللامُ: حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لـ "آياتٍ"، والأجودُ أَنْ يتعلَّق بنفس «آياتٍ» لأنها بمعنى العلامات. و "الْمُتَوَسِّمِينَ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الحجر، الآية: