الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 42
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
قولُهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤهُ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} إِذا سَمَّاكَ اللهُ عَبْدًا فأَنتَ مِنَ الخَوَاصِّ، فإذَا أَضَافَ أَحَدًا مِنْ العبادِ إلى نَفْسِهِ، فهُوَ خَاصُّ الخَواصِّ الذينَ مَحَاهُم عَنْ شَوَاهِدِهِمْ، وَحَفِظَهُمْ وصَانَهُم عَنْ كلِّ أَسْبَابِ الغوايةِ والتَفْرِقَةِ وَجَرَّدَهمْ عَنْ حَوْلِهِمْ وقُوَّتِهم، وأَخَذَهم عَنْهم باسْتِهْلاكِهِمْ في شُهُودِهِ، واسْتَغْرَاقَهمْ في وُجُودِهِ، فأَيُّ سَبِيلٍ للشَّيْطانِ إِلَيْهم؟. وأَيُّ يَدٍ للعَدُوِّ عَلَيْهم؟. و "عِبَادِي" هَاهُنا هُمُ الذينَ أَشَارَ إِلَيْهمْ في الآيَةِ: 40، السَّابِقَةِ بالمُخْلِصَينَ، أَوِ المُخْلَصينَ. فَأَضَافَهمُ إلى نَفْسِهِ المُقدَّسَةِ، إضافةَ تكريمٍ وتشْريفِ، وجعلَهُمْ منْ خاصَتِهِ بِيَاءِ النِّسْبَةِ في "عِبَادِي"، وإِذًا فليسَ للإبليسَ وجُنُودِهِ سُلْطانٌ عَلَى قُلوبِهِم البتَّةَ، كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ. وَقَالَ سُفْيانُ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَيْ لَيْسَ للشَّيْطَانِ سُلطانٌ عَلَيْهم فِي أَنْ يُلْقِيَهُمْ فِي ذَنْبٍ، يَمْنَعُهُمْ عَفْوِيٌّ وَيُضَيِّقُهُ عَلَيْهِمْ. وَهَؤُلَاءِ الذين هَدَاهُمُ اللهُ، واجْتَباهم، واخْتَارَهم، واصْطَفَاهم. فإنَّ الشَّيْطانَ لَا يَسْتَطِيعُ غَوَايَةَ الْعِبَادِ الَّذِينَ أَخْلَصَهُمُ اللهُ لِلْخَيْرِ، وعليهِ فَجُمْلَةُ "إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ" مُسْتَأْنَفَةً لأَنَّها أَفَادَتْ نَفْيَ سُلْطَانِ الشيطانِ عَلَيْهِم. والسُّلْطانُ هو الحُجَّةُ، وَهِيَ للهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَيْسَ للشَيطانِ حُجَّةٌ عَلى مَخْلوقٍ أَبَدًا، إِذْ إنَّ مَقْدِرَتَهُ لا تَتَعَدَّى مَحَلَّهُ، فَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عِبادِي لِلْعُمُومِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِالْإِضَافَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ حَقِيقِيٌّ وَلَا حَيْرَةَ فِي ذَلِكَ. وفي الحَقيقةِ فَإِنَّهُ لا تَسَلُّطَ لِمَخْلُوقٍ عَلَى مَخْلُوقٍ بِالتَأْثيرِ فِيهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ عبَادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ" قَالَ: عِبَادِي الَّذينَ قَضَيْتَ لَهُمُ الْجَنَّةَ "لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِم" أَنْ يُذْنِبُوا ذَنْبًا إِلَّا أَغْفِرُهُ لَهُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي (مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ)، وَابْنْ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي (العَظَمَةِ) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا لُعِنَ إِبْلِيسُ تَغَيَّرتْ صُورَتُهُ عَنْ صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَجَزِعَ لِذَلِكَ، فَرَنَّ رَنَّةً، فَكُلُّ رَنَّةٍ فِي الدُّنْيَا إِلَى يَوْمِ الْقَامَةِ مِنْهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ قَسِيطٍ قَالَ: كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَكونُ لَهُمْ مَّسَاجِدُ خَارِجَةً مِنْ قُراها، فَإِذا أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْبِئَ رَبَّهُ عَنْ شَيْءٍ خَرَجَ إِلَى مَسْجِدٍ فَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثمَّ سَأَلَ مَا بَدَا لَهُ فَبَيْنا نَبِيٌّ فِي مَسْجِدِهِ إِذْ جَاءَ إِبْلِيسُ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمَ ثَلَاثًا، فَقَالَ إِبْلِيس: أَخْبِرْنِي بِأَيِّ شَيْءٍ تَنْجُو مِنِّي؟. قَالَ النَّبِيُّ: بَلْ أَخْبِرْنِي بِأَيِّ شَيْءٍ تَغْلِبُ ابْنَ آدَمَ؟. فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ: "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوينَ" قَالَ: إِبْلِيسُ: قَدْ سَمِعْتُ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُولَدَ، قَالَ النَّبِيُّ: وَيَقُولُ اللهُ {وَإِمَّا يَنْزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} الآيَة: 200، مِنْ سورةِ الْأَعْرَافِ. وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَحْسَسْتُ بِكَ قَطُّ إِلَّا اسْتَعَذْتُ بِاللهِ مِنْكَ. قَالَ إِبْلِيسُ: صَدَقْتَ، بِهَذَا تَنْجُو مِنِّي. فَقَالَ النَّبِيُّ: فَأَخْبِرْنِي بِأَيِّ شَيْءٍ تَغْلِبُ ابْنَ آدَمَ؟ قَالَ: آخُذُهُ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَعِنْدَ الْهَوَى. وقالَ أَحْمَدُ ابْنُ حَنْبَلٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُ: أَعْداؤُكَ أَرْبَعَةٌ:
1 ـ الدُنْيَا، وَسِلاحُها لِقاءُ الخَلْقِ وَسِجْنُها العُزْلَةُ.
2 ـ والشَّيْطانُ، وَسِلاحُهُ الشِّبَعُ وسِجْنُهُ الجُوعُ.
3 ـ والنَّفْسُ، وسِلاحُها النَّوْمُ وسِجْنُهَا السَّهَرُ.
4 ـ والهَوَى، وسِلاحُهُ الكَلامُ وسِجْنُهُ الصَّمْتُ.
قولُهُ: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} أَيْ: إِنَّكَ لَا تُغْوِي إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ، أَوْ إِنَّكَ تُغْوِي مَنْ لمْ يكُنْ مِنْ عِبَادِيَ الْمُخْلِصِينَ. وَإِطْلَاقُ الْغاوِينَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْحُصُولِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْقَرِينَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَاوِيًا بِالْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ لِسُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَعَلُّقُ نَفْيِ السُّلْطَانِ بِجَمِيعِ الْعِبَادِ، ثُمَّ اسْتِثْنَاءُ مَنْ كَانَ غَاوِيًا. فَلَمَّا كَانَ سُلْطَانُ الشَّيْطَانِ لَا يَتَسَلَّطُ إِلَّا عَلَى مَنْ كَانَ غَاوِيًا عَلِمْنَا أَنَّ ثَمَّةَ وَصْفًا بالغوايَةِ هُوَ مُهَيِّئُ تَسَلُّطِ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَلَى مَوْصُوفِهِ. وَذَلِكَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْغَوَايَةِ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ، أَيْ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْغَوَايَةِ لَا بِوُقُوعِهَا.
قوْلُهُ ـ تَعَالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، لإفادَةِ التَوْكيدِ، و "عِبَادِي" اسْمُهُ مَنْصُوبٌ بهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الفَتْحَةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى مَا قَبْلِ ياءِ المتكلِّمِ لانشِغالِ المحلِّ بالحركةِ المُناسِبةِ، وهوَ مُضافٌ، ويَاءُ المُتَكلِّمِ ضميرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ جَرِّ مُضافٍ إِلَيْهِ. و "لَيْسَ" فِعْلٌ مَاضٍ ناقِصٌ، و "لَكَ" اللامُ حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "لَيْسَ" المُقَدَّمِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، و "عَلَيْهِمْ" على: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. و "سُلْطَانٌ" اسْمُ "لَيْسَ" مُؤَخَّرٌ مرفوعٌ، وجُمْلَةُ "لَيْسَ" في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إنَّ"، وَجُمْلَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالَ".
قولُهُ: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} إِلَّا: أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ، و "مَنِ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الاسْتِثْناءِ، وَفِي هَذَا الاسْتِثْناءِ وَجْهانِ: أَحَدُهُما: أَنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ، لأَنَّ المُرادَ بِـ "عِبادي" العُمومُ، طائِعُهم وعاصِيهم، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ اسْتِثْناءُ الأَكْثَرِ مِنَ الأَقَلِّ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلافِيَّةٌ. وثانيهما: أَنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ؛ لأَنَّ الغاوينَ لَمْ يَنْدَرِجُوا في "عِبادي"؛ إِذِ المُرادُ بِهم الخُلَّصُ، والإِضافةُ إِضَافَةُ تَشَريفٍ كَمَا تقَدَّمَ في التفسيرِ. و "اتَّبَعَكَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنِ" المَوْصُولَةِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ. و "مِنَ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ فاعِلِ "اتَّبَعَكَ"، و "الْغَاوِينَ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجرِّ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، وجُمْلَةُ "اتَّبَعَكَ" الفِعْلِيَّةُ هذِهِ صِلَةُ الاسْمِ الموْصُولِ "مَنْ" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.