لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ
(15)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} أَيْ: لَجَحَدُوا أَنْ يَكُونُوا رَأَوْا شَيْئًا. يَقُولونَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ تَعَنُّتِهمْ وتماديهم في سَفَهِهِم، ويَنْكِرُونَ مُعايَنَةَ ذَلِكَ. وَجاؤوا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ بَتُّوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ. وَرَدُّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ظَنٌّ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْا أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَعَرَجُوا فِيهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ، و "سُكِّرَتْ" أَيْ سُدَّتْ. يُقَالُ: سَكَّرَ الْبَابَ بِالتَّشْدِيدِ وَسَكَرَهُ بِالتَّخْفِيفِ إِذَا سَدَّهُ. وسُكِّرَتْ أَبْصارُنا أَيْ غُشِيَتْ أَبْصَارُنَا فَوَجَبَ سُكُونُهَا وَبُطْلَانُهَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَصْلُهُ مِنَ السُّكُونِ، يُقَالُ: سَكَرَتِ الرِّيحُ سُكْرًا إِذَا سَكَنَتْ وَسَكَرَ الْحَرُّ يَسْكُرُ وَلَيْلَةٌ سَاكِرَةٌ لَا رِيحَ فِيهَا وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حِجْرٍ:
جَذَلْتُ عَلَى لَيْلَةٍ سَاهِرَهْ .................... فَلَيْسَتْ بِطَلْقٍ وَلَا سَاكِرَهْ
وَيُقَالُ: سُكِّرَتْ عَيْنُهُ سُكْرًا إِذَا تَحَيَّرَتْ وَسَكَنَتْ عَنِ النَّظَرِ وَعَلَى هَذَا مَعْنَى سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، أَيْ سَكَنَتْ عَنِ النَّظَرِ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "سُكِّرَتْ أَبْصَارُنُا" قَالَ: سُدَّتْ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: سُكِّرَتْ صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يَنْفُذُ نُورُهَا وَلَا تُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ عَلَى حَقَائِقِهَا، وَكَانَ مَعْنَى السَّكْرِ قَطْعَ الشَّيْءِ عَنْ سَنَنِهِ الْجَارِي، فَمِنْ ذَلِكَ تَسْكِيرُ الْمَاءِ وَهُوَ رَدُّهُ عَنْ سُنَنِهِ فِي الْجَرْيَةِ، وَالسُّكْرُ فِي الشَّرَابِ هُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَضَاءِ فِي حَالَ الصَّحْوِ فَلَا يَنْفُذُ رَأْيُهُ عَلَى حَدِّ نَفَاذِهِ فِي الصَّحْوِ. فَهَذِهِ الأَقْوَالُ الأَرْبَعَةُ فِي تَفْسِيرِ "سُكِّرَتْ" مُتَقَارِبَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} أَضْرَبُوا عَنْ قولِهِمُ السابِقِ إِضْرَابَ الْمُتَرَدِّدِ الْمُتَحَيِّرِ يَنْتَقِلُ مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ وَعَادُوا إِلَى إِلْقَاءِ تَبِعَةِ ذَلِكَ عَلَى الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ سَحَرَهُمْ حِينَ سَأَلَ لَهُمُ اللهَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَفَتَحَهُ لَهُمْ، فَقَالُوا: "بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ"، أَيْ مَا رَأَيْنَاهُ هُوَ تَخَيُّلَاتِ الْمَسْحُورِ.
قولُهُ تَعَالى: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} اللامُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "لو" الشَرْطِيَّةِ مِنَ الآيةِ التي قبلَها، و "قالوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وهو ضميرٌ متَّصِلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلٌ، والأَلِفُ للتفريقِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ جَوابٌ لِـ "لَوْ" الشرطيَّةِ. و "إنَّمَا" كافَّةٌ مَكْفُوفَةٌ للحَصْرٍ، و "سُكِّرَتْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ مبنيٌّ على الفتحِ، والتاءُ الساكنةُ لتأنيثِ الفاعِلِ، و " أَبْصَارُنَا" نائبٌ عن فَاعِلِهِ مرفوعٌ، وهو مُضافٌ، و "نا" الدالَّةُ على الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قالوا".
قولُهُ: {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} بَل: حَرْفُ إِضْرابٍ وابْتِداءٍ، و "نَحْنُ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ لجماعةِ المتكلِّمينَ، وهو مَبْنِيٌّ عَلى الضَمِّ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، و "قَوْمٌ" خبرُهُ مَرْفوعٌ، و "مَسْحُورُونَ" صِفَةٌ لِـ "قَوْمٌ" مَرْفوعةٌ مثله، وعلامةُ رفعِها الواوُ لأنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عَنِ التنوينِ في الجِسْمِ المُفردِ، وهذهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قالوا".
قرأَ العامَّةُ: {سُكِّرَتْ} بتشديدِ الكافِ والبِناءِ للمَفْعُولِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثيرٍ "سُكِرَتْ" بِتَخْفيفِها والبِناءِ للمفعولِ أَيْضًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قَرَأَ "سُكِرَتْ أَبْصَارُنُا" خَفِيفَةً. فيَجُوزُ أَنْ تَكونَ بِمَعْنَى المُشَدَّدَةِ، فإنَّ التَخْفيفَ يَصْلُحُ للقَلِيلِ والكَثِيرِ، وهُمَا مَأْخُوذَتَانِ مِنَ "السِّكْرِ" بِكَسْرِ السِّينِ وَهُوَ السَّدُّ، فالمَعْنَى: حُبِسَتْ أَبْصَارُنَا وسُدَّتْ. وقِيلَ: بِمَعْنَى عُطِبَتْ. وَقيلَ: بِمَعْنى أُخِذَتْ. وقِيلَ: بِمَعْنَى سُحِرَتْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: مَنْ قَرَأَ "سُكِّرَتْ" مُشَدّدَةً يَعْنِي سُدَّتْ، وَمَنْ قَرَأَ "سُكِرَتْ" مُخَفَّفَةً فَإِنَّهُ يَعْنِي سُحِرَتْ. وَقِيلَ: المُشَدَّدُ مِنْ سِكْرِ المَاءِ، والمُخَفَّفُ بِمَعْنَى سُحِرَتْ. وقِيلَ: المُشَدَّدُ مِنْ سِكْرِ الماءِ بالكسرِ، والمُخَفَّفُ مِنْ سُكْرِ الشَّرابِ بالضَمِّ. والمَشْهُورُ أَنَّ "سَكَرَ" لا يَتَعَدَّى فَكَيْفَ بُنِيَ للمُفْعُولِ. فَقالَ أَبو عَلِيٍّ الفارسِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ سُمِعَ مُتَعَدِّيًا فِي البَصَرِ. والذي قالَهُ المُحَقِّقونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ "سَكَرَ" إِنْ كانَ مَنْ سَكَرِ الشَّرابِ، أَوْ مِنْ سَكَرِ الرِّيحِ، فالتَضْعِيفُ فِيهِ للتَعْدِيَةِ، وإِنْ كانَ مِنْ سِكْرِ المَاءِ فالتَضْعيفُ للتَكْثيرِ لأَنَّهُ مُتَعَدٍّ مُخَفَّفًا، وذَلِكَ أَنَّهُ يُقالُ: سَكَرَتْ الرِّيحُ تَسْكُرُ سَكَرًا إِذا رَكَدَتْ، وسَكِرَ الرَّجُلُ مِنَ الشَرابِ سَكَرًا إِذا رَكَدَ ولَمْ يَنْفُذْ لِحَاجَتِهِ، فَهَذانِ قاصِرانِ، فالتَضعيفُ فيهِمَا للتَعْدِيَةِ. ويُقالُ: سَكَرْتُ الماءَ في مَجَارِيهِ: إِذا مَنَعْتُهُ مِنَ الجَرْيِ، فهذا مُتَعَدٍّ، فالتَضْعيفُ فِيهِ للتَكْثيرِ.
وأَمَّا قراءةُ ابْنِ كَثيرٍ فإِنْ كانَتْ مِنْ سَكْرِ المَاءِ فَواضِحَةٌ لأَنَّهُ مُتَعَدٍّ، وإِنْ كانَتْ مِنْ سَكَرِ الشَّرابِ أَوْ سَكَرِ الرِّيحِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ الفِعْلُ قد اسْتُعْمِلَ لازِمًا تَارةً ومُتَعَدِّيًا تارةً أُخْرَى، نَحْوَ: رَجَعَ زَيْدٌ، وَرَجَعَهُ غَيْرُهُ، وسَعَدَ وسَعَدَهُ غَيرُهُ. وقال الزَمَخْشَرِيُّ: وَسُكِّرَتْ: حُيِّرَتْ، أَوْ حُبِسَتْ مِنَ السَّكَرِ أَوِ السَّكْرِ، وقُرِئَ "سُكِرَتْ" بالتَخْفيفِ، أَيْ: حُبِسَتْ كَمَا يُحْبَسُ النَّهْرُ مِنَ الجَرْيِ. فجَعَلَ قِراءَةَ التَشْديدِ مُحْتَمَلَةً لِمَعْنَيَيْنِ، وقِراءَةَ التَخْفيفِ لِمَعْنًى واحِدٍ.
وَقَرَأَ الزُهْرِيُّ "سَكِرَتْ" مَبْنِيًّا للفَاعِلِ بِفَتْحِ السِّينِ وكَسْرِ الكافِ مُخَفَّفَةً وهيَ واضِحَةٌ، أَيْ: عُطِبَتْ. وَقِيلَ: هيَ مُطاوِعُ أَسْكَرْتُ المَكَانَ فسَكِرَ، أَيْ: سَدَدْتُهُ فانْسَدَّ.