فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ
(79)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} يُقَالُ: نَقَمَ عَلَيْهِ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَقَمَ مِنْهُ كما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {وَما تَنْقِمُ مِنَّا} الآية: 126. وَالِانْتِقَامُ: هو الْعُقُوبَةُ على الذَنْبٍ، وهي مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّقْمِ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْفِعْلِ. فقدِ انْتَقَمَ اللهُ مِنْ مَدْيْنَ بِالصَّيْحَةِ وَالرَّجْفَةِ، وَعَذَابِ يَوْمِ الظُلَّةِ، بعدَ انتقامِهِ مِنْ قومِ لوطٍ. وَكَانَتْ أَرْضُ مَدْيَنَ قَرِيبَةً مِنْ أَرْضِ قَوْمِ لُوطٍ، وَكَانُوا بَعْدَهُمْ فِي الزَّمَانِ، وَكَانَتْ قَرْيَتُهُمْ وَقُرَى قَوْمِ لُوطٍ تَقَعُ عَلَى طَرِيقٍ ظَاهِرٍ يَأْتَمُّونَ بِهِ، وَيَهْتَدُونَ فِي سَيْرِهِمْ، بَيْنَ الحِجَازِ وَالشَّامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ شُعَيبٌ ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، حِينَ حَذَّرَهُمْ نَقْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ وَغَضَبَهُ: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِح وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} الآيَةَ: 89، مِنْ سُورةِ هودٍ. فَإِنَّ اللهَ تَعَالى ما أَهْلَكَ قَوْمًا إِلَّا كانُوا عِبْرَةً لِمَنْ بَعدَهم، والعاقلُ يَبْحَثُ عَنْ سَبَبِ هَلاكِهم، فَيَعْمَلُ جُهْدَهُ في التَحَرُّزِ مِنْهُ، أَمَّا الغافِلُ فإنَّهُ مُنْهَمِكٌ في غَفْلَتَهِ، لا يُلْقي لِذَلِكَ بالًا، حَتَّى يَأْتِيهِ ما يُوعَدُ بِهِ.
قولُهُ: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} وَإِنَّهُمَا: أَيْ قَرْيَةُ لُوطٍ وَقَرْيَةُ أَصْحَابِ الأَيْكَةِ. و "لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ" بِطَرِيقٍ وَاضِحٍ يَأْتَمُّونَ بِهِ فِي أَسْفَارِهِمْ إِلَى الشَّامِ، فيَعْتَبِرُ كُلُّ مَنْ وَقَفَ على هذه الآثارِ. والإِمامُ المُبِينُ هُنُا: هُوَ الطَريقُ الوَاضِحُ. أَخْرَجَهُ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ" يَقُولُ: عَلَى الطَّرِيقِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا ابْنُ جَريرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ" قَالَ: طَرِيقٍ ظَاهِرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ" قَالَ: بِطَرِيقٍ مُعَلَّمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ" قَالَ: بِطَرِيقٍ مُسْتَبينٍ.
والإمامُ: مَا يُؤْتَمُّ بِهِ، وَيُوصَلَ بهِ إِلى المَقْصُودِ سواءٌ أكانَ طَريقًا أَوْ غَيْرِ ذلك. وَالظاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ التَّثْنِيَةِ عَائِدٌ عَلَى أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ قَبِيلَتَانِ، وَهُمَا مَدْيَنُ وَسُكَّانُ الْغَيْضَةِ الْأَصْلِيُّونَ الَّذِينَ نَزَلَ مَدْيَنُ بِجِوَارِهِمْ، فَإِنَّ سيِّدَنا إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ، أَسْكَنَ ابْنَهُ مَدْيَنَ فِي شَرْقِ بِلَادِ الْخَلِيلِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي أَرْضٍ مَأْهُولَةٍ. وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى ذِكْرِ قَوْمِ شُعَيْبٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِاسْمِ مَدْيَنَ مَرَّاتٍ وَبِاسْمِ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ مَرَّاتٍ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو ـ رضيَ اللهُ عنهُما، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مَدْيَنَ وَأَصْحَابَ الأَيْكَةِ أُمَّتَانِ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمَا شُعَيْبًا)). وَقيلَ: الضميرُ في "إِنَّهُما" يَعودُ للنَّبِيَيْنِ: لُوطٍ وَشُعَيْبِ ـ عليهِما السَّلامُ، فهما عَلَى طَريقٍ مِنَ الدينِ واضِحٍ بيَّنٍ. واللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} الفاءُ: هي الفَصيحةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ بِـ: إِذا عَرَفْتَ كَوْنَهم ظَالِمِينَ، وأَرَدْتَ بَيَانَ عَاقِبَةِ أَمْرِهم، فأَقُولُ لَكَ: انْتَقَمْنا منهم، و "انْتَقَمْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نَفسَهُ، و "نا" ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. و "مِنْهُمْ" مِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالفعلِ "انْتَقَمَ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذَكَّر. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِجَوابِ "إذا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذا" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} الواوُ: عاطفةٌ. وَ "إِنَّهُمَا" إنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ، و "هما" ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. وَ "لَبِإِمَامٍ" اللامُ: للتوكيدِ (حَرْفُ ابتداء)، و "بِإِمامٍ" الباء: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "إِنَّ"، و "إمامٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "مُبِينٍ" صِفَةٌ لِـ "إِمَامٍ"، مجرورةٌ مثله. وجُمْلَةُ "إنَّ" في محلِّ النَّصْبِ بالقولِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "انْتَقَمْنَا" عَلَى كَوْنِها مَقُولًا لِجَوابِ إِذا المُقَدَّرَةِ.