قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ
(70)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} والِاسْتِفْهَامُ هُنَا للتَّقْريرِ. و "الْعالَمِينَ" النَّاسُ، وَهو جمعُ "عَالَمُ"، والعالَمُ: هو الْجِنْسُ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَوْجُودَاتِ، وَقَدْ بَنَتْهُ الْعَرَبُ عَلَى وَزْنِ "فَاعَلٍ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُشْتَقًّا مِنَ الْعِلْمِ، أَوْ مِنَ الْعَلَامَةِ، لِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ لَهُ تَمَيُّزٌ عَنْ غَيْرِهِ فَإنَّ لَهُ عَلَامَةٌ، أَوْ هُوَ سَبَبُ الْعِلْمِ بِهِ، فَلَا يَخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ. وَهَذَا الْبِنَاءُ مُخْتَصٌّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْآلَةِ غَالِبًا، كَ "خَاتَمٍ" وَ "قَالَبٍ" وَ "طَابَعٍ" فَجَعَلُوا الْعَوَالِمَ لِكَوْنِهَا كَالْآلَةِ لِلْعِلْمِ بِالصَّانِعِ، أَوِ الْعِلْمِ بِالْحَقَائِقِ. وَلَقَدْ أَبْدَعَوا إِذْ بَنَوُا اسْمَ جِنْسِ الْحَوَادِثِ عَلَى وَزْنِ "فَاعِلٍ" لِهَذِهِ النُّكْتَةِ، كما أَبْدَعُوا إِذْ جَمَعُوهُ جَمْعَ الْعُقَلَاءِ مَعَ أَنَّ مِنْهُ مَا لَيْسَ بِعَاقِلٍ وذَلِكَ تَغْلِيبًا لِلْعَاقِلِ. وَالْعَالَمُ ـ أَيْضًا: اسْمٌ لِذَوِي الْعِلْمِ، وَلِكُلِّ جِنْسٍ يُعْلَمُ بِهِ الْخَالِقُ، يُقَالُ عَالَمُ الْمُلْكِ، عَالَمُ الْإِنْسَانِ، عَالَمُ النَّبَاتِ، فلَا يُطْلَقُ بِالْإِفْرَادِ إِلَّا مُضَافًا لِنَوْعٍ يُخَصِّصُهُ، ويُقَالُ عَالَمُ الْإِنْسِ، عَالَمُ الْحَيَوَانِ، عَالَمُ النَّبَاتِ، وَلَيْسَ اسْمًا لِمَجْمُوعِ مَا سِوَاهُ تَعَالَى، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ إِجْرَاءٌ فَيَمْتَنِعُ جَمْعُهُ. فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ عَالَمٍ عَلَى مَجْمُوعِ مَا سِوَى اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا أَطْلَقَهُ عَلَى هَذَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِمُ: الْعَالَمُ حَادِثٌ، فَهُوَ مِنَ المُصْطَلَحَاتِ، والتَعْريفُ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ خَارِجِيٌّ، وَلَمْ يَكُنْ مَعْنًى لِلْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا عَلَى الْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ، تَمَحَّضَ التَّعْرِيفُ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ فَاسْتِغْرَاقُهُ اسْتِغْرَاقُ الْأَجْنَاسِ الصَّادِقِ هُوَ عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ، لِيَشْمَلَ كُلَّ جِنْسٍ مِمَّا سُمِّيَ بِهِ، إِلَّا أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْأَجْنَاسِ يَسْتَلْزِمُ اسْتِغْرَاقَ أَفْرَادِهَا، إِذِ الْأَجْنَاسُ لَا تُقْصَدُ لِذَاتِهَا. وَإِنَّمَا جُمِعَ الْعَالَمُ وَلَمْ يُؤْتَ بِهِ مُفْرَدًا لِأَنَّ الْجَمْعَ قَرِينَةٌ عَلَى الاسْتِغْراقِ، لِأَنَّهُ لَوْ أُفْرِدَ لَتُوُهِّمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّعْرِيفِ الْعَهْدُ أَوِ الْجِنْسُ، فَكَانَ الْجَمْعُ تَنْصِيصًا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَهَذِهِ سُنَّةُ الْجُمُوعِ مَعَ (الْ) الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلَمَّا صَارَتِ الْجَمْعِيَّةُ قَرِينَةً عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ بَطَلَ مِنْهَا مَعْنَى الْجَمَاعَاتِ فَكَانَ اسْتِغْرَاقُ الْجُمُوعِ مُسَاوِيًا لِاسْتِغْرَاقِ الْمُفْرَدَاتِ أَوْ أَشْمَلَ مِنْهُ. وَبَطَلَ مَا شَاعَ عِنْدَ مُتَابِعِي السَّكَّاكِيِّ مِنْ قَوْلِهِمُ: اسْتِغْرَاقُ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ. وَتَعْدِيَةُ النَّهْيِ إِلَى ذَاتِ الْعَالَمِينَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ أَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ حِمَايَةِ النَّاسِ؟ أَوْ أَلمْ نَنْهَكَ عَنْ إِجَارَتِهِمْ؟ أَوْ أَلمْ نَنْهَكَ عَنْ ضِيَافَةِ النَّاسِ وإيوائهم، وَإِنْزَالِهِمْ في بَيْتِكِ ضُيوفًا؟. وأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ" قَالَ: يَقُولُونَ أَنْ تُضِيفَ أَحَدًا أَوْ تُؤْوِيهِ. وهذا هُوَ تَأْويلُ أَكْثَرِ المُفَسِّرينَ. وَقَدْ أَرَادُوا بِـ "العالمينَ" هُنَا الْقَبَائِلَ مِنْ حوْلِهم، لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ. فإِنَّهم كانُوا يَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، ويَتَعَرَّضُونَ لِكُلِّ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ وَعَلَى قُرَاهم، وكانَ لُوطٌ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، يُحَاوِلُ مَنْعَهمْ بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُ، والمُرادُ بقولِهِمْ هذا: أَنَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهم وَبَيْنَ ما أَرَادُوا، وما اعْتَادُوا أَنْ يفعلوهُ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ والمسافرونَ الذينَ يَمُرُّونَ بِقُراهُمْ فِي حِمَايَتِهِ لهم.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} قَالُوا: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعة، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلِهِ، والأَلِفُ الفارقة، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، و "أَوَلَمْ" الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهَامِ التقريريِّ دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، والواوُ: عَاطِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذُوفِ، والتَقْديرُ: أَلَمْ نُقَدِّمْ لَكَ وَأَلَمْ نَنْهَكَ، و "لَمْ" حرفُ جازِمٌ، و "نَنْهَكَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لَمْ"، وعلامةُ جَزْمِهِ حذفُ حرفِ العِلَّةِ من آخِرِهِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "نَحْنُ" يَعُودُ عَلى قوْمِ لُوطٍ، وَكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ نَصْبِ مَفْعُولِهِ، وَ "عَنِ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، و "الْعَالَمِينَ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه مَعْطُوفَةٌ عَلَى تِلْكَ المَحْذوفَةِ، والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قَالُوا".