الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 53
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالُوا لَا تَوْجَلْ} أَيْ: لا تَخَفْ، قَالهُ عِكْرِمَةُ فيما أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عنهُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ شَاعِرِ الحجازِ المخضرمِ مَعْنِ بِنِ أَوْسٍ المُزَنيِّ:
لَعَمْرُكَ ما أَدْري، وإِنِّي لَأَوْجَلُ ................ عَلَى أَيِّنا تَعْدُو المَنِيَّةُ أَوَّلُ
وبِهَذَا طَمْأَنَتِ المَلائكَةُ إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ، وأَزَالَتْ مَخاوِفَهُ، وهَدَّأَتْ مِنْ رَوْعِهِ. ثُمَّ عَلَّلُوا نَهْيَهُ عَنِ الخَوْفِ بِأَنْ بشَّروهُ بأنَّهُ سيولَدُ لهُ مولودٌ ذكَرٌ، وَهوَ إِسْحاقَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى في سُورةِ هُود ـ عليهِ السَّلامُ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} الآية: 71. فقد كانَتْ هَذِهِ البِشَارَةُ بِإِسْحَاقَ، وذَلِكَ بَعْدَ مَوْلِدِ إِسْماعِيلَ بِمُدَّةٍ، وَقَوْلُ إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، في الآية: 39، مِنْ سورةِ إبراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {الحَمْدُ للهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ} لا يَقْتَضِي أَنَّهُ وُهَبَهُما حِينَئَذٍ، بَلْ قَبْلَ الحَمْدِ بِكَثيرٍ، إِنَّما يعني أنَّهُ وهِبَ إِسْمَاعِيلَ وإِسْحَاقَ في سِنٍّ مُتَقَدِّمَةٍ، لأَنَّ زَوْجَهُ سارة، كانتْ عاقرًا كما تقدَّمَ، فَوهَبَتْهُ أَمَتَها هاجرَ فتَزَوَّجِ بها، فَوَلَدَتْ لَهُ إَسْمَاعِيلَ وهوَ في سِنٍّ مُتَأَخِرةٍ، وهوَ في سِنٍّ مُتَأَخِرةٍ أَيضًا، وإِنّما قبلَ ولادةِ إسحاقَ بزمنٍ ـ عليهِمُ الصلاةُ والسَّلامُ جميعًا.
قولُهُ: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} عَلِيمٍ: أَيْ: سَيَعيشُ حَتَّى يَعْلَمُ، لأَنَّ الطِفْلَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ بِحَسَبِ العَادَةِ. وَقِيلَ: بَشَّرُوهُ بِنُبُوَّتِهِ بَعْدَهُ. وَقِيلَ: بَشَّرُوهُ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِالدِّينِ. وَكانَتْ بِشَارَتُهمْ بِالوَلَدِ وَبِبَقاءِ الوَلَدِ هِيَ العَجَبُ نَظَرًا لِأَنَّ زَوْجَهُ سَارَةَ كانَتْ عَاقِرًا وَقَدْ طَعَنَتْ في السِّنِّ، وَهُوَ شَيْخٌ هَرِمٌ، فَكانَتْ وِلادَةُ إِسْحَاقَ لَهُمَا أَمرًا مُعْجِزًا خارِقًا ِلَما اعْتَادَ عَلَيْهِ النَّاسُ. وَ "عَليمٌ" صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ "عَالِمِ"، والعِلْمُ: هُوَ الذي يَدْعُو صَاحِبَهُ إِلَى كُلِّ خُلُقٍ رَفيعٍ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ جَميعُ الخِصَالِ الرَّفِيعَةِ، وَنَفَى عَنْهُ كُلَّ خُلُقٍ دَنيءٍ. بِقَولِهِ فِي الآيَةِ: 101، مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}، فالحِلْمُ: هوَ الذي يَنْفِي عَنْ صَاحِبِهِ كُلَّ دَنِيَّةٍ. فَقَدْ بَشَّرُوهُ إِذًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْوَلَدُ الذَكَرٌ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ سَيَصِيرُ عَلِيمًا، وقِيلَ المُرَادُ هُوَ أَنَّهُ سَيُصْبِحُ نَبِيًّا مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِما الصلاةُ والسَّلامُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 112، مِنْ سُورةِ الصّافَّاتِ: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا لَا تَوْجَلْ} قَالُوا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ هي الفَارِقَةُ، والجُمْلَةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. و "لَا" حَرْفٌ ناهِيَةٌ جازِمَةٌ، و "تَوْجَلْ" فعلٌ مضارعٌ مَجْزومٌ بها، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا إِبْراهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قَالُوا".
قولُهُ: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} إِنَّا: هي "إنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوْكيدِ، و "نا" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُها. و "نُبَشِّرُكَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يَعُودُ عَلَى المَلائكِةِ الكرامِ ـ عليهِمُ السَّلامُ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ. و "بِغُلَامٍ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُبَشِّرُكَ"، و "غُلَامٍ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجرِّ. و "عَلِيمٍ" صِفَةٌ لـ "غُلامٍ" مَجْرورةٌ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ، في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إنَّ"، وَجُمْلَةُ "إنَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قَالُوا" عَلَى كَوْنِها مُعَلِّلَةً لِمَا قَبْلَهَا.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {لَا تَوْجَلْ} مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. بِفَتْحِ التَّاءِ، مِنْ "وَجِلَ" كَ "شَرِبَ يَشْرَبُ"، وقِياسُهُ "فَعِل"، إِلَّا أَنَّ العَرَبَ آثرَتْ "يَفْعِل" بِالكَسْرِ فِي بَعْضِ الأَلْفاظِ إِذا كانَتْ فاؤهُ وَاوًا نَحْوَ: "يَثِقُ". وَقَرَأَ الْحَسَنُ "لا تُوجَلْ" بِضَمِّ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنَ "أَوْجَلَ إِيجالًا". لأَنَّهُ فعلٌ لازِمٌ لا يَتَعَدَّى. وَقُرِئَ: "لَا تَاجَلْ" بِإِبْدَالِ الْوَاوِ أَلِفًا، كَمَا قَالُوا: "تَابَةٌ" في "تَوْبَة" والأَصْلُ "تَوْجَل" كَقِراءَةِ العَامَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ أُبْدِلَ مِنَ الواوِ أَلِفًا لانْفِتاحِ مَا قَبْلها، وَإِنْ لَمْ تَتَحَرَّكْ، كَقَوْلِهمْ: "تابَة" في تَوْبة، و "صامة" في "صَوْمَة"، وقدْ سُمِع في الدُّعاءِ: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ تابَتي وَصَامَتي. وَقُرِئَ أَيْضًا "لَا تُوَاجِلْ" مِنْ وَاجَلَهُ بِمَعْنَى أَوْجَلَهُ.
قَرَأَ الجمهورُ بالتشديد {إِنَّا نُبَشِّرُكَ} وقَرَأَ حَمْزَةُ "إِنَّا نَبْشُرُكَ" بِفَتْحِ النُّونِ، وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ وجزْمِها وَضَمِّ الشِّينِ، وَهِيَ لُغَةٌ فيها، يُقَالُ: بَشَرَهُ يَبْشُرُهُ، مِنْ بَابِ "نَصَرَ".