الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 6
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
قولُهُ ـ جَلَّ وَعَلَا: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} القائِلُونَ هَذِهِ المَقَالَةَ هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بِأَنها نَزَلَتْ في عَبْدِ اللهِ بْنِ أُمَيَّةَ، والنَّضْرِ بْنِ الحَرْثِ، ونَوْفَلِ بْنِ خُوَيْلِدٍ، والوَليدِ بْنِ المُغِيرَةِ. والمُخاطَبُ هو سَيِّدُ الأولينَ والآخرينَ محمَّدُ بْنُ عبدِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، والمُرادُ بِـ "الذِّكرُ" هو القُرآنُ الكريمُ كَمَا قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. والمَجْنُونُ هو مَنْ ذهَبَ عقلُهُ أَيْ أَنَّ عقلَهُ قد حُجِبَ وسُتِرَتْ عنْهُ حقائقُ الأُمورِ حَتَّى أَنَّهُ ما عادَ يُقَدِّرُ عَواقِبَ مَا يفعلُ أَوْ يَقُولُ، فَأَصْلُ الجُنُونِ مِنَ السَّتْرِ، ويُقالُ: جُنَّ فُلانٌ، فَهُوَ مَجْنُونٌ، وقدْ أَجَنَّهُ اللهُ، وَبِهِ جُنُونٌ أَوْ مَسٌّ مِنْ جُنُونٍ، وَجِنَّةٌ ومَجِنَّةٌ. ومِنْهُ قِيلَ للنَّبْتِ المُلْتَفِّ هو مَجْنونٌ؛ لأَنَّ بَعْضَهُ يَسْتُرُ بَعْضًا.
وإِنَّما قالُوا "نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ" اسْتِهْزاءً، ونَظِيرُهُ قَوْلُ فِرْعَوْنَ كما حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى في الآيَةِ: 27، مِنْ سُورَةِ الشُّعْراءِ: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}. وقيلَ بِأَنَّ المَعنى: يا أَيُّها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِكْرُ كما يَزعُمُ ويدَّعي، وهو كَقَوْلِهِ تَعَالى في الآية: 49، مِنْ سُورَةِ الدُخَانِ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}، تَهَكُّمًا بِهِ، أَيْ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ عِنْدَ نَفْسِكَ، وكَمَا أَخْبَرَ ـ سُبْحانَهُ عَنْ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} الآيَةَ: 49، مِنْ سُورَةِ الزُخْرُف، فإِنَّ مَنْ آمَنَ مِنَ السَحَرَةِ لا يَعْتَقِدونَ فِيهِ أَنَّهُ ساحِرٌ، وإِنَّما التقدير: {وَقَالُوا: يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ} فيما يَذْهَبُ إِلَيْهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} أَوْ فِيما يُظْهِرونَ مِنْ ذَلِكَ، وكحكايتِهِ قَوْلَ قَوْمِ شُعَيْبٍ لشُعيبٍ: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} الآية: 87، مِنْ سورةِ هود. ومنْهُ قَولُ شاعرٍ يمانيٍّ يُدْعَى (زَهْرَة اليَمَنِ) يُهجُو جَريرًا:
أبْلِغْ كُلَيْبًا وأَبْلِغْ عَنْك شَاعِرَها .............. أَنَّي الأَغَرُّ وأَنِّي زَهْرَةُ اليَمَنِ
فأَجابَهُ جَريرٌ:
ألَمْ يَكُنْ في وُسُومٍ قد وَسَمْتُ بِهَا ....... مَنْ حانَ مَوْعظةً يا زَهْرَةَ اليَمنِ
يَعْني: عِنْدَ نَفْسِكَ، لا أَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ هَذِهِ التَسْمِيَةَ. فَلَوْ أَنَّ كفارَ قريشٍ قَالُوهَا مُوقِنِينَ بِها لَمَا قَالُوا بَعْدَ ذَلِكَ: "إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ". وإِلَّا فَكَيْفَ يُقِرُّونَ بِنُزولِ الذِّكْرِ عَلَيْهِ، ويَنْسِبُونَهُ إِلى الجُنُونِ؟. وَقَدْ فنَّدَ اللهُ تعَالى ادِّعَاءَهمْ هَذا فِي الآيَةِ الثانِيَةِ مِنْ سُورَةِ القَلَمِ فَقَالَ: {ما أَنْتَ بِنِعْمَةَ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}. ولَقَدْ كانُوا هُمْ أَوْلَى بِهَذَا الوَصْفِ مِنْهُ ـ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، لأَنَّهم هُمُ الذينَ كانُوا بِوَصْفِ الْتِبَاسِ الحَقائقِ عَلَيْهُم، فهُمْ في الحالَةِ التي يُنْبَغِي أَنْ يُسْخَرَ مِنْها، وكَمَا جَاءَ في المَثَل: رَمَتْنِي بِدَاْئِها وانْسَلَّتْ.
وفي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ ما وَرَدَ عنْ مُقاتلٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، قالَ: نَزَلَتْ في عَبْدِ اللهِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيِّ، والنَّضْرِ بْنِ الحارِثُ، وهوَ ابْنُ عَلْقَمَةَ، مِنْ بَنِي عَبْدِ الجارِ بْنِ قُصَيٍّ، ونَوْفَلِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى، كُلُّهم مِنْ قُرَيْشٍ، والوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، قالوا للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ. تَفْسِيْرُ مُقاتِلٍ: (2/198).
قولُهُ تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} الوَاوُ: للاستِئنافِ، و "قَالُوا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعلُهُ، والأَلِفُ الفارِقَةُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "يَا" أَداةُ نداءٍ، و "أَيُّهَا" أَيُّ: مُنَادَى نَكِرَةٌ مَقْصُودَةٌ، مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ النَّصْبِ على النداءِ، و "ها" للتنبيهِ، وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مُقولُ القولِ لِـ "قال". و "الَّذِي" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةً لِـ "أَيُّ" أَوْ بَدَلًا مِنْها، أوْ عطفَ بيانٍ لها. و "نُزِّلَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبنيٌّ للمجهولِ، مبنيٌّ على الفتحِ. و "عَلَيْهِ" على: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "الذِّكْرُ" نائبٌ عنْ فاعِلِهِ مرفوعٌ، والجُمْلةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} إنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ نَصْبِ اسْمِهِ، والامُ المزحلقةُ للتوكيدِ، أَوْ (حرفُ ابْتِداءٍ) و "مجنونٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وهذه الجُمْلَةُ الإسمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القولِ لِـ "قالَ"، عَلَى كَوْنِها جَوابَ النِّداءِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {نُزِّلَ} مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا للمَفْعُولِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "نَزَلَ" مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا للفاعِلِ