الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية: 50
وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
قولُهُ ـ تَعَالَى جَدُّهُ: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} أَيْ: وَأَخْبِرْهمْ أَيْضًا يا رَسُولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، أَنَّ عَذابي هوَ العَذابُ المُؤلِمُ المُوجِعُ الذي لا يُشْبِهُهُ عَذَابٌ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُم، وأَقامَ عَلَى مَعْصِيَتِي، وأَصَرَّ عَلَيْها. وهَذَا تَحْذيرٌ مِنْهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، لِخَلْقِهِ لِردْعِهِم عَنِ الإِقدامِ عَلَى مَعْصِيَتِهِهِ، وأَمَرِ مِنْهُ لَهُمْ بالإنابَةِ إليهِ والتَّوْبَةِ. ونُلاحِظُ أَنَّ هذِهِ الآيةَ الكريمَةَ لمْ تؤكَّدْ بما أُكِّدَتْ الآيةُ السابقةُ لها، وذلك لأَنَّ اللهَ ـ تباركتْ أَسْماؤهُ، وعَزَّتْ صِفَاتُهُ، قدْ سَبَقتْ رَحمتُهُ غضَبَهُ كما جاءَ في الحديثِ عَنْ سَيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قالَ: ((إِنْ اللهَ كَتَبَ كِتابًا فَهُو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي)). صحيح البُخاري بِرَقَمْ: (7554)، وصَحيح مُسْلِمٍ بِرَقَم: (2751)، مِنْ حَديثِ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وفي صحيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ ماجَةَ وَابْنِ مِرْدُوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيِّ: (إِنَّ رَحْمَتي غَلَبَتْ غَضَبِي)، وأخرجَهُ عبْدُ الرَّزَّاقِ في تَفْسيرِهِ: (2/44) ولفظُهُ: ((لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي)). وخَرَّجَ أَبو القاسِمِ إِسْحاقُ بْنُ إِبْراهيمَ الخُتُلِيُّ، بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا فَرَغَ اللهُ تَعَالى مِنَ القَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ، أَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ تَحْتَ العَرْشِ؛ أَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، قَالَ: فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مِثْلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، أَوْ قَالَ: مِثْلَيْ أَهْلِ الجَنَّةِ، قَالَ: وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ قَالَ: مِثْلَيْ أَهْلِ الجَنَّةِ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ: عُتَقَاءُ اللهِ)). ورَوَى الحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، قالَ: إِذا فَرَغَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، مِنَ القَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ، أَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ تَحْتِ العَرْشِ فِيهِ: (أَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبي، وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ). قالَ: فيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مِثْلُ أَهْلِ الجَنَّةِ، أَوْ مِثْلَيْ أَهْلِ الجَنَّةِ، مَكْتُوبًا هَا هُنَا ـ وأَشَارَ الحَكَمُ إِلى نَحْرِهِ، "عُتَقاءُ اللهِ". فَقَالَ رَجُلٌ لِعِكْرِمَةَ: فإِنَّ اللهَ يَقُولُ: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} الآية: 37، مِنْ سورةِ المائدَةِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: أُولئكَ أَهْلُها. وَأَخرجَ بْنُ مِرْدُويْهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ، قَالَ اللهُ: (يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، فَأَجَابُوهُ مِنْ أَصْلَابِ الْآبَاءِ وَأَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي وَعَفْوِي سَبَقَ عِقَابِيَ، قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَسْأَلُونِي، وَقَدْ أَجَبْتُكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَدْعُونِي، وَقَدْ غَفَرَتُ لَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَعْصُونِي، مَنْ جَاءَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدِي وَرَسُولِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ).
قولُهُ تَعالى: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "أَنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، و "عَذابي" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ، و "هُوَ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ بالابتِداءِ، ويجوزُ أنْ يُعرَبَ ضَميرَ فَصْلً، ولا يَجُوزُ التَوْكِيدُ بِهِ؛ إِذْ لا يُؤَكَّدُ المُظْهَرُ بالمُضْمَرِ، و "الْعَذَابُ" خَبَرُ المبتَدَأِ "هوَ"، أَوْ خبَرُ "أَنَّ" إِذا أُعرِبَ "هو" ضميرَ فَصْلٍ. و "الْأَلِيمُ" صِفَةٌ لِـ "الْعَذَابُ}، وَجُمْلَةُ "أَنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "أَنَّ" الأُوْلى، على كونِها فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ سادٍّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "نَبِّئْ" الثاني والثالث.