الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الحجر، الآية: 66
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} وَأَوْحَيْنَا إِلَى لُوطٍ ذَلِكَ الأَمْرَ الذي حَكَمْنَا بِهِ عَلَى قَوْمِهِ، وعَلَّمْناهُ وعَرَّفناهُ وَفَرَغْنا مِنْ ذَلِكَ، يُقالُ: قَضَى الأَمْرَ، إِذَا فَرَغَ مِنْهُ وأَتَمَّهُ، وهو كَقَوْلِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} الآية: 71، منْ سُورةِ يُونُس ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَيْ: انْهَضُوا إليَّ بِما في أَنْفُسِكم وافرغوا مِنْ ذَلكَ. وقيلَ: إِنَّ مَعْنَى "وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ" مِنَ الخَبَرِ، أَيْ: أخبرْناهُ، وهوَ كَقَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سورةِ الإسْراءِ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ في الْكِتَابِ} الآيَة: 4، أَيْ: أَخْبَرْنَا بَني إِسْرائيلَ في الكِتَابِ، وَأخرج ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمَرَ" قَالَ: أَوْحَينَا إِلَيْهِ. فقد ضَمَّنَ القَضَاءَ مَعْنَى الإِيحاءِ، ولذلكَ عُدِّيَ بـ "إلى". و "ذَلِكَ الْأَمْرَ" الإشارةُ هنا إِلَى مَا أُخْبِرَ بِهِ ِإِبْراهيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ أَمْرِ إِهْلاكِهم. والإشارةُ بـ "ذلكَ" للتعظيمِ، والإبْهَامُ في "الأَمر" للتهويلِ.
قولُهُ: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} تَفْسيرٌ لذلِكَ الأَمْرِ الذي قَضَى بِهِ عليهم، وهوَ أَنَّ أُولئكَ القومُ، قوم لوطٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مُهْلَكونَ بالعذابِ عَنْ آخِرِهم، ومُسْتَأْصَلُونَ بِحَيْثُ لا يبقى مِنْهُمْ أَحَدٌ أَبَدًا، وسيتُمُّ ذَلِكَ معَ إِطلالةِ الصباحِ. وهذا أَمْرٌ مُبْرَمٌ مَبْتُوتٌ فِيهِ، لا تراجُعَ عنهُ، ولا تأخيرَ فيهِ البتَّةَ. و "دابرُ" القومِ هوَ الذي يَأْتي آخَرَهم، أَيْ في أَدْبَارِهم، والقطْعُ: الإزالةُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الاسْتِئْصَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ في سورةِ الأنعامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} الْآية: 45، وإِذا قُطِعَ وَأُتِى عَلَيْهِ، فَقَدَ أَتَى العَذَابُ على أَوَّلِهم وآخِرِهمْ، وفيه دَلالَةٌ عَلَى الاسْتِئْصالِ والهَلاكَ التامِّ والإبادةِ، ويُقالُ: قَطَعَ اللهُ دَابِرَ فلانٍ، واسْتَأْصَلَ شَأْفَتَهُ، وأَسْكَتَ نَأْمَتَهُ، وكلُّها بِمَعْنَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ تعالى: "إِنَّ دابَرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ" يَعْنِي اسْتِئْصالَهم وهلاكَهم.
قولُهُ تَعَالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} الواوُ: اسْتِئنَافِيَّةٌ، وَ "قَضَيْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضَميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" الجماعة، وهي ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، و "إِلَيْهِ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قَضَيْنَا"، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "ذَلِكَ" ذا: اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولُ القَضَاءِ، واللامُ للبُعدِ، والكافُ للخطابِ، والإِشارَةُ بِهِ إِلَى مَا وَعَدَ مِنْ إِهْلاكِ قومِهِ، وَ "الأَمْرَ" إِمَّا بَدَلٌ مِنْهُ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} أَنَّ: حَرْفٌ نَاصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ لإفادةِ التوكيدِ، و "دَابِرَ" اسْمُ "أَنَّ" منصوبٌ بِهَا، وهو مُضَافٌ، و "هَؤُلَاءِ" الهاءُ: للتنبيهِ، و "أُلاءِ" اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنيٌّ عَلَى الكسْرِ في محلِّ الجَرِّ بِالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "مَقْطُوعٌ" خَبَرُ "أَنَّ" مرفوعٌ بها. و "مُصْبِحِينَ" حالٌ مِنَ الضَميرِ المُسْتَتِرِ فِي "مَقْطُوعٌ"، وإِنَّما جُمِعَ حَمْلًا عَلَى المَعْنَى، وَقد جَعَلَهُ الفَرَّاءُ، وأَبُو عُبَيْدٍ خَبَرًا لِـ "كانَ" مُضْمَرَةً، قالَا: وتَقْديرُهُ: إِذا كانُوا مُصْبِحِينَ نَحْوَ: أَنْتَ مَاشِيًا أَحْسَنُ مِنْكَ رَاكِبًا. وَهُوَ منهما تَكَلُّفٌ. وَ "مُصْبِحِينَ" دَاخِلِينَ في الصَّباحِ فهِيَ تَامَّةٌ، وليستْ فعلًا ناقِصًا. وجُمْلَةُ "أَنَّ" في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى البِدَلِيَّةِ مِنِ اسْمِ الإِشارَةِ، أَوْ مِنَ الأَمْرِ، والتَقْديرُ: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ قَطْعُ دابرَ هَؤلاءِ مُصْبِحينَ، أَوْ مَجْرورٌ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ بِقَطْعِ دَابِرِ هَؤُلاءِ.
قرَأَ العامَّةُ: {أَنَّ دَابِرَ} بِفَتْحِ هَمْزَةِ "أَنَّ" وفيها أَوْجُهٌ، أَحَدُها: أَنَّها بَدَلٌ مِنْ "ذَلِكَ" إِذا قُلْنا: "الأَمرَ" عَطْفُ بَيَانٍ. والثاني: أَنَّها بَدَلٌ مِنَ "الأَمْرَ" سَوَاءً قُلْنا: إِنَّها بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ. الثالثُ: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الجارِّ، أَيْ: بِأَنَّ دابِرَ، فَفِيهِ الخِلافُ المَشْهُورُ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِكَسْرِها؛ لأَنَّهُ بِمَعْنَى القَوْلِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ القَوْلِ. وَعَلَّلَهُ الشَّيْخُ أَبو حيَّان الأندلُسِيُّ بِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَ مَا هُوَ بِمَعْنَى العِلْمِ كُسِرَ. وَفِيهِ النَّظَرُ المُتَقَدِّمُ.