فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 107
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
قولُهُ ـ جلَّ جلالُهُ: {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ} أَفَأَمِنُوا: اسْتِفْهامٌ إِنْكارِيٌّ فيهِ تَوْبيخٌ وتَهْديدٌ ووعيدٌ، و "غَاشِيَةٌ" ما يَغْشَى ويَغَطِّيهم ويُغِمُّهم، وَ "الْغَاشِيَةُ" أيضًا الْحَادِثَةُ الَّتِي تُحِيطُ بِالنَّاسِ. وَالْعَرَبُ يُؤَنِّثُونَ هَذِهِ الْحَوَادِثَ مِثْلَ الطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ وَالدَّاهِيَةِ وَالْمُصِيبَةِ وَالْكَارِثَةِ وَالْحَادِثَةِ وَالْوَاقِعَةِ وَالْحَاقَّةِ. وَالْغَشْيُ وَالْغَشَيَانُ: الْإِحَاطَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. أَيْ: أفأمِنَ أُلائك الذين يؤمنون باللهِ ويُشركونَ غيرَهُ معَهُ في العِبادةِ، أَنْ تَأْتِيَهم عقوبةٌ مُجَلَّلَةٌ شاملةٌ تَغْشاهم مِنْ فوقهم، أَيْ: عذابٌ مِنَ السَّمَاءِ، ونَظِيرُ هذِهِ الآيةِ قولُهُ تَعَالى في الآيَةِ: 55، مِنْ سُورَةِ العَنْكَبُوت: {يومَ يَغْشاهُمُ العذابُ مِنْ فوقِهم}. وَأخرج عبدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَن قَتَادَة ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: وَاقعَةٌ تَغْشَاهم. وأَخْرَجَ عَنْهُ أيضًا ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، أَنَّهٌ قَال: "غاشيةٌ" عُقُوبَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ. وقالَ الضَّحَّاكُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، "غاشيَةٌ" يَعْنِي الصَّواعِقَ والقَوَارِعَ. ويُقالُ أيضًا: الغاشيةُ حجابٌ مِنَ القَسْوةِ يَحصُل في القلبِ، لا يَزولُ بالتَّضَرُّعِ، ولا يَنقَشِعُ بالتَّخَشُّعِ. ومجيءُ الغاشِيَةِ إنَّما يكونُ في الدُّنْيا، وذَلِكَ لِمُقابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ بعد ذلكَ: "أو تأتيهِمُ السَّاعَةُ" ومجيءُ الساعَةِ إنَّما يكونُ يَوْمَ القِيامَةِ.
قولُهُ: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً: أيْ فجأة في الزَمانِ مِنْ حَيْثُ لا يُتَوَقَّعُ، و "وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" بِقِيامِها، أي: وهم غيرُ مُسْتَعِدِّينَ لَهَا. وَهُوَ تَأْكيدٌ لِقَوْلِهِ: "بغتة". قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: تَهيجُ الصَّيْحَةُ بالنَّاسِ وَهُمْ في أَسْوَاقِهمْ.
وهَذِهِ الآيَةُ اعْتِرَاضٌ بِالتَّفْرِيعِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيتَانِ قَبْلَها مِنْ تَفْظِيعِ حَالِ المُشركينَ وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى خَالِقِهِمْ ومولاهم، وَاصْرَارِهم عَلَى ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَوَقُّعِ حُصُولِ غَضَبِ اللهِ بِهِمْ آمِنُونَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فَتَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ وَيَصِيرُونَ إِلَى الْعَذَابِ الْخَالِدِ. وهي ـ وإِنْ كانَتْ في الكُفَّارِ، فإِنَّ للعُصَاةِ حَظٌّ مِنْ أَلْفاظِها، فيَكون الإِيمانُ حَقيقَةً، والشِّرْكُ لُغَوِيًّا ، كالرِّياءِ مَثَلًا، لقولِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((الرِّيَاءُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ)) أَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (5/428)، والبَغَوِيُّ في (شرْحِ السُنَّةِ): (7/343)، مِنْ حَديثِ مَحْمودِ بْنِ لَبيدٍ ـ رضي اللهُ عنْهُ، ورواهُ الحاكم في (المُسْتَدْرَكِ): (4/329)، وصَحَّحَهُ، ووافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، عنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
قولُهُ ـ تعالى: {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ} أَفَأَمِنُوا: الهمزةُ: للاسْتِفْهامِ التَّوْبِيخِيِّ الإنْكارِيِّ دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذوفٍ. والفَاءُ: عاطِفَةٌ عَلَى ذَلِك المَحْذوفِ، والتَقديرُ: أَغَفِلَ هَؤُلاءِ المُشرِكونَ عَنْ مَكْرِ اللهِ تَعَالى فَأَمِنُوا؟. و "أَمِنُوا" فعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ على الفاعليَّةِ، والألفُ الفارقةُ، والجملةُ معطوفةٌ عَلَى تِلْكَ الجملةِ المَحْذوفةِ، على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "أَنْ" حرفٌ مصدريٌّ ناصِبٌ، و " تَأْتِيَهُمْ" فعلٌ مضارعٌ منصوبٌ بهِ، و "هم" ضميرُ الغائبينِ مبنيٌّ في محلِّ النَّصبِ على المفعوليَّةِ، و "غَاشِيَةٌ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بهِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بصِفَةٍ لِـ "غَاشِيَةٌ"، و "عَذَابِ" مَجْرورٌ بهِ مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مَجرورٌ بحرفِ الجرِّ، وهذه الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصوبٍ عَلَى المَفْعولِيَّةِ والتقديرُ: أَفَأَمِنُوا إِتْيانَ غاشِيَةٍ مِنْ عَذَابِ اللهِ إِيَّاهم.
قولُهُ: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أَوْ: حرفُ عَطْفٍ، و "تَأْتِيَهُمُ الساعةُ" مثل "تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ" وقد تقدَّمَ إعْرابهُا، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ قولِهِ "تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ" على كونِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ والتقديرُ: أَوْ إِتْيانُ السَّاعَةِ إِيَّاهم. و "بَغْتَةً" منصوبٌ على الحالِ مِنَ "السَّاعَةُ" أَيْ: باغِتَةً. و "وَهُمْ" الواوُ للحالِ، و "هم" ضميرٌ منفصلٌ للغائبينَ مبنيٌّ في محلِّ الرفعِ بالابتداءِ، و "لَا" نافيةٌ لا عملَ لها، و "يشعُرُونَ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ من الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخرِهِ لأنَّهُ منَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرّفعِ على الفاعليَّةِ، وهذه الجملةُ الفعليَّةُ في محلِّ الرَّفعِ خبَرُ المُبْتدَأِ، والجُمْلةُ الاسِمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ مَفْعُولِ "تَأْتِيَهُمُ".
قرأَ العامَّةُ: {تأتيهم} بالتاءِ، وقرَأَ أَبُو حَفْصٍ، وبِشْرُ بْنُ عُبَيْدٍ: "أَوْ يَأْتِيَهمُ السّاعَةُ.