وَلَمَّا جهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أيْ: وَلَمَّا أَوْقَرَ رَكائبَهم بِما جَاؤوا لأَجْلِهِ مِنَ المِيرَةِ والطَّعامِ وحَمَّلَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَعِيرًا وجَهَّزَهم بِمَا سِوى ذَلِكَ مِنَ الزادِ وبِما يَحْتاجُ إِلَيْهِ المُسافِر في العادَةِ على قَدْرِ طاقَتِهم وبِيئَتِهم. وَأَكْرَمَهُمْ أَيْضًا بِالنُّزُولِ في ضيافتِهِ، بعدَ أنْ أَوْفَى لَهُمْ كَيْلَهُمْ، وَحَمَلَ لَهُمْ أَحْمَالَهُمْ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ـ رضي اللهُ عنه: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ فِيمَنْ جَهَّزَ مِنَ النَّاسِ حَمَّلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعِيرًا بِعِدَّتِهِمْ وزادهم حمل بعيرينِ، واحد لأبيهم والآخر لأخيهم بنيامين الذي بقي عند أبيه، أَمَرَ يُوسُفُ أَنْ تُرَدَّ فِضَّةُ كُلِّ واحِدٍ منهم إِلى عِدْلِهِ.
وجَهَّزَ الرجُلُ الْقَوْمَ تَجْهِيزًا إِذَا تَكَلَّفَ لَهُمْ جَهَازِهِمْ لِلسَّفَرِ وَهُوَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ المُسافِرُ فِي وَجْهِهِ، وَكَذَلِكَ جَهَازُ الْعَرُوسِ وَجَهازُ الْمَيِّتِ. والْقُرَّاءُ كُلُّهُمْ عَلَى فَتْحِ الْجِيمِ، وَالْكَسْرُ لُغَةٌ لَيْسَتْ بِجَيِّدَةٍ.
قولُهُ: {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} قَالَ لَهُمْ: ائْتُونِي فِي المَرَّةِ القَادِمَةِ بِأَخِيكُمْ هَذا الذِي ذَكَرْتُمْ لأَعْلَمَ صِدْقَكُمْ فِيمَا زَعَمْتُمْ. لأنَّه كان سَأَلَهُمْ عَنْ حَالِهِمْ وَمِنْ أَيْنَ جَاؤُوا. فَقَالُوا: إِنَّهُمْ أَتَوْا مِنْ بِلاَدِ كَنْعَانَ، وَأَبُوهُمْ نَبِيُّ اللهِ يَعْقُوبُ. قَالَ: وَهَلْ لَهُ أَوْلاَدٌ غَيْرُكُمْ؟ قَالُوا نَعْمَ، كُنَّا اثْنَي عَشَرَ رَجُلاً هَلَكَ وَاحِدٌ مِنَّا فِي البَرِّيَّةِ، وَبَقِيَ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ اسْتَبْقَاهُ عِنْدَهُ يَتَسَلَّى بِهِ عَنْهُ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: فَأَصَابَ الأَرْضَ الْجُوعُ، وأَصَابَ بِلادَ يَعْقُوبَ الَّتِي كَانَ فِيهَا فَبَعَثَ بَنِيهِ إِلَى مِصْرَ، وَأَمْسَكَ بِنْيَامِينَ، أَخَا يُوسُفَ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ عَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكَرُونَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمْ أَخَذَهُمْ فَأَدْخَلَهُم الدَّارَ، وَقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي مَا أَمْرُكُمْ فَإِنِّي أُنْكِرُ شَأْنَكُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، قَالَ: فَمَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: نَمْتَارُ طَعَامًا، قَالَ: كَذَبْتُمْ، أَنْتُمْ عُيُونٌ، كَمْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ عَشَرَةٌ. قَالَ: أَنْتُمْ عَشَرَةُ آلافٍ، كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ أَمِيرُ أَلْفٍ فَأَخْبِرُونِي خَبَرَكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّا إِخْوَةٌ بَنُو رَجُلٍ وَاحِدٍ، صِدِّيقٍ وَإِنَّا كُنَّا اثْنَى عَشَرَ فَكَانَ يُحِبُّ أَخًا لَنَا، وأَنَّهُ يَذْهَبُ مَعَنَا إِلَى الْبَرِيَّةِ فَهَلَكَ مِنَّا فِيهَا وَكَانَ أَحَبَّنَا إِلَى أَبَيْنَا، قَالَ: فَإِلَى مَنْ يَسْكُنُ أَبوكُمْ بَعْدَهُ؟ قَالُوا: إِلَى أَخٍ أَصْغَرَ مِنْهُ. قَالَ: كَيْفَ تُحَدِّثُونِي أَنَّ أَبَاكُمْ صِدِّيقٌ وَهُوَ يُحِبُّ الصَّغِيرَ مِنْكُمْ دُونَ الْكَبِيرِ؟ ائْتُونِي بِأَخِيكُمْ هَذَا حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ مُبَالَغَةً منهُ في إِظْهارِ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ لَهم، ولأَنَّهُ لَمَّا سَأَلوهُ حِمْلًا زائِدًا لِبِنْيامِينَ أَعْطاهم واشْتَرَطَ عليهم أَنْ يَأْتوا بِهِ فَإِنْ لَمْ يَأْتُوا بِهِ فَلا كَيْلَ لَهمْ عِنْدِه ولا يقربونَ. وقيل إِنَّهم لمَّا ذكروا لهم أباءهم قالوا لَهُ: وَقَدْ عَرَّفْنَاكَ أَنْسابَنَا، فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَسْكُنُ نَفْسُكُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ لهم يُوسُفُ: "ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ" إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتِمٍ أَيْضًا في تَفْسيرِهِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ: "ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ" يَعْنِي: بِنْيَامِينَ، وَهُوَ أَخُو يُوسُفَ الشقيقُ لأَبِيهِ وأُمِّهِ.
قولُهُ: {أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} قَالَ لَهُمْ: أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أَوفِي الكَيْلَ حَقَّهُ، تَرْغِيبًا لهمْ فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وإيثارُ صِيغَةِ الاسْتِقْبالِ مَع َكَوْنِ هذا الكلامِ بَعْدَ التَجْهيزِ للدَّلالةِ عَلى أَنَّ ذَلِكَ عادَةٌ لَهُ مُسْتَمِرَّةٌ. وأخرج ابْنُ أَبي حاتمٍ في تفسيرِهِ عَنِ محمّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَجْعَلُ لَكُمْ مَعَهُ بَعِيرًا آخَرَ، أَوْ كَمَا قَالَ. وفي روايةٍ له أيضًا عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أَيْ: لَا أَبْخَسُ النَّاسَ شَيْئًا.
قولُهُ: {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} وَأَنَا أَكْرَمُ مَنْ أَنْزَلَ ضَيْفًا. فَقَدْ أَحْسَنَ ضِيَافَتَهُمْ، وَجَهَّزَهُمْ بِالزَّادِ الكَافِي لَهُمْ مُدَّةَ سَفَرِهِمْ. ولم يقل ذلك ـ عليهِ السلامُ، منًّا عليهم، وإنَّما حثًّا لهم على أنْ يأتوا بِأَخيهم بنيامينَ، وأخرج ابْنُ أَبي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، قَوْلُهُ: وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ قَالَ: خَيْرُ مَنْ يُضِيفُ بِمِصْرَ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتِمٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ" أَيْ: خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ غَيْرِي، فَإِنَّكُمْ إِنْ أَتَيْتُمْ بِهِ أَكْرَمْتُ مَنْزِلَتَكُمْ، وَأَحْسَنْتُ إِلَيْكُمْ، وَازْدَدْتُمْ بَعِيرًا لأَبيكم وآخَرَ لأَخيكم مَعَ عِدَّتِكُمْ، وقد عَلِمْتُمْ بِأَنِّي لَا أُعْطِي كُلَّ رَجُلٍ إِلَّا حِمْلَ بَعِيرٍ واحِدٍ مِنَ القمحِ.
فيض العليم ... سورةُ يوسُفُ، الآية: 58فيض العليم ... سورةُ يوسُفُ، الآية: 58قولُهُ تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، ولَمَّا: حرفٌ ظَرْفِيٌّ بِمَعنَى "حِينِ" مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، مَبْنِيٌّ على السكون في محلِّ النَّصْبِ على الظَّرفيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِ "قالَ" وهو مضافٌ. و "جَهَّزَهُمْ" فعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هوَ" يَعودُ عَلَى "يُوسُفَ" عَلَيْهِ السَّلامُ. وضَميرُ الغائبينَ "هم" مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعولٍ بِهِ، و "بِجَهازِهم" الباءُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالفعلِ "جَهَّزَ" بِتَضْمينِهِ مَعْنَى أَكْرَمَهُمْ، و "جَهازِ" مجرورٌ بِهِ مُضَافٌ وضَميرُ الغائبينَ "هُمْ" مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِليْهِ. وجُمْلَةُ: "جهزهم" في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إلى الظَّرْفِ. وجُمْلَةُ "لما" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها من الإعراب.
قولُهُ: {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} قَالَ: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلَى "يُوسُفَ" عَلَيْهِ السَّلامُ، وهذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ جَوابُ "لمَّا"، و "ائْتُونِي" فعْلُ أمرٍ مبنيٌّ على حذْفِ النونِ من آخرِهِ لأَنَّ مضارعَهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ مُستترٌ فيه وجوبًا تقديرُهُ "أنتم" يعودُ على إخوةِ "يوسُف" وياءُ المتكلِّم ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السكونِ في محلِّ نَصْبِ مفعولٍ به، والنونُ للوقايَةِ. و "بِأَخٍ" الباءُ حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالفعل "ائتوني" والجُملةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقوْلِ ل "قال". و "لكُم" اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِ "أخٍ"، والتقديرُ: ائتوني بأخٍ كائنٍ لكم، ضميرُ المُخاطبين "كم" متَّصل في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بحالٍ مِنَ الضَّميرِ المُسْتَكِنِّ في الجارِّ والمَجرورِ قبلَهُ، أَو صفةٌ ثانيةٌ لِ "أخٍ"، و "أَبِيكُمْ" مَجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مضافٌ و ضميرُ المُخاطَبينَ "كم" في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليه. وجملةُ "ائتوني" في محلِّ النَّصْبِ ب "قالَ".
قولُهُ: {أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} أَلَا: الهمزةُ: للاسْتِفْهامِ التَقريريِّ. و "لا" نافِيَةٌ لا عَمَلَ لها. و "ترونَ" فعْلٌ مضارعُ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ منَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخرِهِ لأنَّهُ من الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعة ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والجُمْلةُ مستأنَفةٌ في سياقِ القولِ أو اعتراضيَّةٌ وفي الحالينِ لا محلَّ لها مِنَ الإعراب. و "أَنِّي" حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيد، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ اسْمِ "أنَّ". "أُوفِي" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مقدَّرةٌ على آخرِهِ لثقلِها على الياءِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُستَتِرٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ "أنا" يعودُ على "يُوسُفَ" عليه السلامُ، و "الْكَيْلَ" مَفْعولُهُ منصوبٌ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ الرَّفعِ خَبَرًا ل "أَنَّ"، وَجُمْلَةُ "أَنَّ" في تَأْويلِ مَصْدَرٍ سَادٍّ مَسَدَّ مَفْعولَيّ "تَرَونَ" إِنْ كانَتِ الرؤيا هنا عِلْمِيَّةً، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، إِنْ كانَتْ الرُّؤيا بَصَرِيَّةً، والتقديرُ: أَلَا تَرَوْنَ إِيفائي الكَيْلَ.
قولُهُ: {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} الوَاو: عاطِفَةٌ، و "أَنَا" ضميرٌ منفصلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، و "خَيْرُ" خَبَرُ مرفوعٌ وهو مضافٌ، و "الْمُنْزِلِينَ" مُضافٌ إِلَيْهِ مجرورٌ وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السالِمُ، وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "أنَّ" عَلَى كَوْنِها سادَّةً مَسَدَّ مَفْعُولِ "تَرَوْنَ".