فيض العليم .... سورة يوسف، الآية: 2
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أَنْزَلَ ـ سبحانَهُ وتعالى، أَشْرَفَ الكُتُبِ بِأَشْرَفِ اللُّغاتِ، عَلَى أَشْرَفِ المُرْسَلينَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، بِوِساطَةِ أَشْرَفِ المَلائِكَةِ (جِبْريلَ) ـ عليه السَّلامُ، في أَشْرَفِ بقاعِ الأَرْضِ، في أَشْرَفِ الشهورِ (رمضان) وأشرف لياليهِ (ليلة القدرِ) ليلةٌ هي خيرٌ منْ ألفِ شهرٍ، فَكَمُلَ شرفُهُ مِنْ كُلِّ الوُجُوهِ، فالحمدُ للهِ الذي تفضَّلَ علينا بهذه النعمةِ العظيمة.
وقد احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ شيخُ المعتزلةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ مَخْلُوقًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ يَدُلُّ عَلَى حدوثِهِ وخلقِهِ، فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَا يَجُوزُ تَنْزِيلُهُ وَإِنْزَالُهُ وَتَحْوِيلُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.
الثَّانِي: أَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا وَالْقَدِيمُ لَا يَكُونُ عَرَبِيًّا وَلَا فَارِسِيًّا ولا غيرَ ذلك.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُنْزِلَهُ لَا عَرَبِيًّا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنَ الْآيَاتِ وَالْكَلِمَاتِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُرَكَّبًا كَانَ مُحْدَثًا.
وقدْ أُجيبَ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِالقُولِ: إِنَّ هَذِهِ الحُجَجَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ وَالْأَلْفَاظِ وَالْعِبَارَاتِ مُحْدَثٌ وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ، إِنَّمَا الَّذِي نَدَّعِي قِدَمَهُ شَيْءٌ آخَرُ فَسَقَطَ هَذَا الاسْتِدْلالُ، وقريبٌ مِنْ هَذَا قَولُ الأخطلِ:
إنَّ الكَلامَ لَفِي الفُؤادِ وإنَّما ............ جُعِلَ اللِّسانُ عَلَى الفُؤَادِ دَليلًا
و "عَرَبيًّا" أيْ: بِالْعَرَبِيَّةِ، لَيْسَ كَالْكُتُبِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنزلْ بِلُغَةِ الْعَرَبِ كِتَابٌ. وأَنْزَلَهُ بِلِسانِ العَرَبِ، لأَنَّ لُغَةَ العَرَبِ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وأَبْيَنُها وأَوْسَعُها، وأَكْثَرُها تَأْدِيَةً للمَعاني التي تَقومُ في النُفوسِ. ولا نَدْرِي بِأَيِّ لِسانٍ كانَ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِلِسانِ العَرَبِ، وهَكَذَا كُلُّ كِتابٍ أُنْزِلَ إِنَّما أُنْزِلَ بِلِسانِ المُنَزَّلِ عَلَيْهم، لَمْ يَنْزِلْ بِغَيْرِ لِسَانِهم. ولذلك أَوْجَبَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، حُبَّ الَعرَبِ، فيما أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحِبَّ الْعَرَبَ لِثَلاثٍ: لِأَنِّي عَرَبِيٌّ، وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ، وَكَلَامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخ وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا عَرَبِيٌّ وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ وَكَلَامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَلا "قُرْآنًا عَرَبيًّا" ثمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلْهَمَ إِسْمَاعِيلَ هَذَا اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ إِلْهامًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَهُوَ كَلَامُهُم. وَالْعَرَبِيُّ نِسْبَةً إِلَى "عَرَبَةَ" وَهِيَ بَاحَةُ دَارِ إِسْمَاعِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وقد ذكرها أَبو طالبٍ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، عَمُّ النَّبِيِّ، مِنْ قَصيدَةٍ يَمْدَحَ فيها ابْنَ أَخِيهِ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ فقال:
وَعَرْبَةِ أَرْضٍ مَا يُحِلُّ حَرَامَهَا ........... مِنَ النَّاسِ إِلَّا اللَّوْذَعِيُّ الْحُلَاحِلُ
سَكَّنَ راءَها ضَرُورَةً، فيَجوزُ أَنْ يَكونَ العَرَبِيُّ مَنْسُوبًا إِلى هَذِهِ البُقْعَةِ ويَعْنِي باللَّوْذَعِيِّ الحُلاحِلِ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولُهُ: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لَعَلَّ: في كلامِ اللهِ تعالى مَحْمَلُ الرَّجَاءِ الْمُفَادِ بِهَا هنا وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ. أي: لِعَقْلِكُمْ مَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ لِتَعْلَمونَهُ، فَعَبَّرَ عَنِ الْعِلْمِ بِالْعَقْلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ الكريمِ عَلَى الْعِلْمِ قَدْ بَلَغَتْ فِي الْوُضُوحِ حَدَّ أَنْ يَنْزِلَ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِلْمُ مِنْهَا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ، وَأَنَّهُمْ مَا دَامُوا مُعْرِضِينَ عَنْهُ فَهُمْ فِي عِدَادِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ تَعْقِلُونَ ليدُلَّ على أَنَّ إِنْزَالَهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ تَعَقُّلِ الكَثِيرَ مِنَ الْعُلُومِ التي لا حَصْرَ لَها.
قولُهُ تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} إِنَّا: هي "إنَّ" حرفٌ ناصبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفِعلِ للتوكيدِ، و "نا" ضميرُ المعظِّمِ نفسَهُ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبِ اسْمِهُ. و "أنْزَلْنَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٍّ على السكونِ في لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ، و "نا" المُعظِّمِ نَفْسَهُ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ نصبِ مفعولِهِ. و "قُرْآنًا" حالٌ مُوَطّئَةٌ مِنْ ضَميرِ المَفْعولِ فِي "أَنْزَلْنَاهُ"، ولكنْ بَعْدَ تَأْويلِهِ بِمُشْتَقٍّ، في حَالَةَ كونِهِ مَقْروءً؛ أَيْ: مَجْمُوعًا. ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ بَدَلًا مِنَ ضَميرِ "أَنْزَلْناه"، ويجوزُ أَنْ يكونَ مَفْعولًا بِهِ والضَميرُ في "أَنْزلْناه" ضَميرُ المَصْدَرِ. و "عَرَبِيًّا" صِفَةُ "قُرْآنًا"، وجَوَّزَ أَبو البَقاءِ أَنْ يَكونَ حالًا مِنَ الضَّميرِ في "قُرْآنًا" إذا تَحَمَّلَ ضَميرًا، يَعْنِي إذا جَعَلْناهُ حالًا مُؤَوَّلًا بِمُشْتَقٍّ، أَيْ: أَنْزَلْناهُ مُجْتَمِعًا في حالِ كَوْنِه عَرَبِيَّا. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا ل "إنَّ" والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لَعَلَّكُمْ" لعلَّ: ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ، وضميرُ المُخاطَبينَ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ اسْمِهِ. و "تعقلونَ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخرِهِ لأنَّهُ من الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ: واوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به، مبنيٌّ على السُكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ. وجُمْلَةُ "تَعْقِلُونَ" خَبَرُ "لعلَّ" في محلِّ النَّصْبِ، وجُمْلَةُ "لعلَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ ما قَبْلَهَا، لا محلَّ لها.