فيضُ العليم ... سورة يوسف، الآية: 61.
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} راودهُ عنْ نفسِهِ: خادَعَهُ واسْتَمالَهُ بِرِفْقٍ مُجْتَهِدًا بازلًا ما في وُسْعِهِ في للوصولِ إلى غايتِهِ، وهذا يدلُّ عَلى عِزَّةِ المَطْلَبِ وصُعُوبَةِ المنالِ. وإنَّما جازَ لِيُوسُفَ أَنْ يَطْلُبَ أَخاهُ، مَعَ ما في ذَلِكَ مِنْ إِدْخالِ الحُزْنَ عَلَى قلبِ أَبيهِ لِجَوازِ أَنْ يَكونَ ذَلِكَ إنّما تمَّ بِأَمْرَ عَنِ اللهِ تَعَالى زِيادَةً في بلاءِ يَعْقوبَ ـ عليهِما السلامُ، لِيُعْظِمَ ثَوابَهُ عندَه. يَدُلُّ عَل ذلكَ ما رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ـ رضي اللهُ عنهُ، أَنَّه قال: لَمَّا جَمَعَ اللهُ بَيْنَ يُوسُفَ ويَعْقوبَ، قالَ لَهُ يَعقوبُ: بَيْني وبَيْنَكَ هَذِهِ المَسافَةُ القَريبَةُ، ولَمْ تَكْتُبْ إِلَيَّ تُعَرِّفْنِي؟! فقالَ: إِنَّ جِبْريلَ أَمَرَني أَنْ لا أُعَرِّفَكَ، فقالَ لَهُ: سَلْ جِبْريلَ، فَسَأَلَهُ، فقالَ: إِنَّ اللهَ أَمَرَني بِذَلِكَ، فقالَ: سَلْ رَبَّكَ، فَسَأَلَهُ، فقالَ: قُلْ لِيَعْقوبَ: خِفْتَ عَلَيْهِ الذِّئْبَ، ولَمْ تُؤَمِنِّي؟
قولُهُ: {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} أَيْ: وإنّا لَضَامِنُونَ الْمَجِيءَ بِهِ، وَمُحْتَالُونَ فِي ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ "وَإِنَّا لَفاعِلُونَ" كُلَّ مَا فِي وُسْعِنَا مِنْ هذا البابِ. وقدْ أَكَّدوا وَعْدَهُم بِمؤكِّداتٍ ثلاث: الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وحرْفَيِ التَّوكِيدِ (إِنَّ واللامِ المُزحلقةِ). وفيه دليلٌ على ثِقَتهم بأنْفسهم، بأَنَّهم قادرون على حصولهم منْ أَبيهم على ما يريدونَ، فقدْ كان شيخًا كبيرًا قد ذهَبَ بَصرُهُ حزنًا على ابنِهِ يوسفَ ـ عليهِما السلامُ، ولا حيلةَ له إلَّا موافقتَهم على ما يبغونَ، معتمدين في ذلك على شديدِ مكرهم، ومتانةِ كيدِهم، خاصَّةً وقد نجحوا منْ قبلُ في مخادَعَتِهِ في أمرِ يوسُفَ ـ عليه السلامُ.
قولُهُ تعالى: {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} قَالُوا: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعٍ فاعلِهِ، والألفُ الفارقةُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "سَنُرَاوِدُ" السينُ حرفُ استقبالٍ للتسويفِ، وفعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "نحنُ" يَعودُ عَلَى إِخْوَةِ يُوسُفَ. و "عَنهُ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "أَبَاهُ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ، وعلامةُ نصبِهِ الألفُ لأنَّهُ مِنَ الأسماءِ الخَمْسَةِ، وهو مضافٌ والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالُوا".
قولُهُ: {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} وَإِنَّا: الواوُ: عاطفةٌ، و "إنَّ" حرفٌ ناسخٌ ناصِبٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، و الأَلِفُ ضميرٌ متًّلٌ به في محلِّ نصبِ اسْمِهِ. و "لَفَاعِلُونَ" اللامُ: المزحلقةُ للتوكيدِ، حَرْفُ ابْتِداءٍ، و "فاعلونَ" خبرُ "إنَّ" مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالِمُ، والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسمِ المفردِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ عطْفًا عَلى الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ قبلَها مؤكِّدةً لها.