فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 29
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} ثُمَّ أَمَرَ صَاحِبُ البَيْتِ يُوسُفَ بِكِتْمَانِ مَا وَقَعَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: اضْرِبْ صَفْحاً عَنْهُ فَلا تَذْكُرُهُ لأَحَدٍ لِكَيْلاَ يَشِيعَ خَبَرُهُ، وَيَنْتَشِرَ بَيْنَ النَّاسِ، لئلَّا يَحْصُلَ الْعَارُ الْعَظِيمُ بِسَبَبِهَا. أخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: "يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا" قَالَ: عَن هَذَا الْأَمرِ والْحَدِيثِ، "واستغفري لِذَنْبِكِ" أَيَّتُها الْمَرْأَةُ. وَأخرج ابْنُ جريرٍ وَابْن أبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فِي قَوْلِهِ: "يُوسُف أَعْرِضْ عَنْ هَذَا" قَالَ: لَا تَذْكُرْهُ.
قولُهُ: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} وَقَالَ لامْرَأَتِهِ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ الذِي وَقَعَ مِنْكِ مِنْ إِرَادَةِ الفَاحِشَةِ بِالشَّابِّ، ثُمَّ اتْهَامُهُ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ، وَظَاهِرُ ذَلِكَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ طلبُ المغفرةِ مِنَ الزَّوْجِ وَيَكُونُ مَعْنَى الْمَغْفِرَةِ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْأَقْرَبُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ الشَّاهِدُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الله تعالى، لِأَنَّهم كَانُوا يُثْبِتُونَ الصَّانِعَ ـ سبحانَه، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ بِدَلِيلِ قولِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَهم بعد ذلك في الآية: 39، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المباركةِ: {يا صاحبيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}، فيَجُوزُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ هُوَ الزَّوْجَ.
قولُهُ: {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} أَي: فإنَّكَ كُنْتِ ـ بِفِعْلِكِ هَذَا، مِنَ الذِينَ يَرْتَكِبُونَ الخَطِيئَةَ عَنْ عَمْدٍ وَسابقِ تَصْمِيمٍ. فنَسَبَهَا إِلَى كَثْرَةِ الْخَطَأِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَفيهِ دليلٌ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ عَرَفَ أَنَّ المذْنِبَ هو امْرأَتُهُ وليس يوسُف ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فقد يكَونَ يَعْرِفُ منْهَا قبلَ ذلك إِقْدَامَهَا عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي فعلُه. وفي هذا دليلٌ على أَنَّهُ كانَ قَلِيلَ الْغَيْرَةِ، فَاكْتَفَى مِنْهَا بِالِاسْتِغْفَارِ والرجوعِ عَنِ الذنْبِ. وقِيلَ بأَنَّ اللهَ تَعَالَى سَلَبَهُ الْغَيْرَةَ لُطْفًا بِيُوسُفَ حَتَّى يَكْفيهِ ثورتَهُ وبَادِرَتَهُ، فعالجَ الأَمْرَ بِمُنْتَهى الهدوءِ والرويَّةِ والتعقُّلِ، فتَسَتَّرَ عَلى هَذِهِ الخِيَانَةِ صيانةٍ لعرضِهِ مِنْ أَنْ تَلُوكُهُ الأَلْسُنُ وعَفَا عَنْها. وَأَخرج ابْن أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فِي قَوْلِهِ "واسْتَغْفِري لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخاطئينَ" قَالَ: حِلْمًا.
كمَا أَنَّ في نِدائِهُ: "يُوسُفَ" بحَذْفِ أداةِ النِداءِ على أَنَّه مُنَادى قَريبٌ تقريبٌ لَهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وتَلْطيفٌ لِمَحَلِّهِ لكَمَالِ تَفَطُّنِهِ للحَديثِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "مِنَ الْخَاطِئِينَ" بِلَفْظِ التَّذْكِيرِ، فهو إمَّا تَغْلِيبٌ لِلذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، فَغَلَّبَ الْمُذَكَّرَ، وَالْمَعْنَى: مِنَ نَسلِ القومِ الْخَاطِئِينَ، فَمِنْ ذَلِكَ النَّسْلِ سَرَى فيك هذا العِرْقُ الخَبِيثُ. كقولِهِ في سورة النَّملِ: {إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ} الآية: 43، وكقولِهِ في سورة التَّحريم: {وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ} الآية: 12.
قولُهُ تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} يُوسُفُ: مُنَادى مُفْرَدُ العَلَمِ حُذِفَت مِنْهُ أَداةُ النِّداءِ للتَّخْفيفِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ في مَحَلِّ النَّصْبِ على النداءِ. وكُلُّ مُنَادَى يَجوزُ حَذْفُ حَرْفِ النِّداءِ مِنْهُ إِلَّا الجَلالَةَ المُعَظَّمَةَ، واسْمَ الجِنْسِ غالِبًا، والمُسْتَغاثَ والمَنْدوبَ، واسمَ الإِشارةِ ـ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، والمُضْمَرَ إذا نُوديَ. وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قَالَ". و "أَعْرِضْ" فعلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السكونِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أَنْتَ" يَعودُ على يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. و "عَنْ" حَرْفُ جَرٍّ متعلّق ب "أَعْرِضْ"، و "هذا" الهاءُ: للتنبيهِ، و "ذا" اسْمُ إِشارَةٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الجَرٍّ بحرفِ الجرِّ، وجُمْلَةُ "أَعْرِضْ" في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قَالَ" عَلى كَوْنِها جوابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} الوَاوُ: حرفُ عطفٍ. و "اسْتَغْفِرِي" فعلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على حذفِ حرفِ النونِ من آخرِهِ لأنَّ مضارعَهُ من الأفعالِ الخمسةِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ "أنتِ" يعودُ على امرأةِ العزيز. و "لِذَنْبِكِ" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والكافُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَعْرِضْ".
قولُهُ: {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} إِنَّكِ: حرفٌ ناصبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ النَّصْبُ اسْمهُ. و "كُنْتِ" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعلِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ اسْمِهِ. و "مِنَ الْخَاطِئِينَ" جارٌ ومجرورٌ في محلِّ نَصبِ خبَرِ "كان"، وعلامةُ الجرِّ الياءُ لأنَّه جمعُ المُذَكَّرِ السالمُ والنونُ عوضٌ عن التنوينِ في الاسمِ المُفردِ، وجُمْلَةُ "كان" في مَحلِّ الرَّفعِ خَبَرُ "إِنَّ" وجملةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قَالَ" على كونِها تَعليلًا لِمَا قبلَها.
قرأَ الجمهورُ: {يوسُفُ} بضَمِّ الفاءِ لكونِهِ مُفْرَدًا مَعْرِفَةً.
وقرَأَ الأَعْمَشُ بِفَتْحِها. وقيلَ: لَمْ تَثْبُتْ هذِهِ القراءةُ عَنْهُ، وعَلى تقديرِ ثُبوتِها فقد أَخْرجَهُ عَلى أَصْلِ المُنَادَى، كَقولِ عَدِيٍّ أَخي المُهْلْهِلِ:
ضَربت صدرَها إليَّ وقالتْ ................ يا عَدِيًّا لَقَدْ وَقَتْكَ الأَوَاقي
أي: أَنَّهُ مَفعولٌ بِهِ فَحَقُّهُ النَّصْبُ، واتَّفَقَ أَنَّ يُوسُفَ لا يَنْصَرِفُ فَفَتْحَتُهُ فتْحَةُ إِعْرابٍ. والأَشْبَهُ: أَنْ يَكونَ وَقَفَ عَلى الكَلِمَةِ ثمَّ وَصَلَ وأَجْرى الوَصْلَ مُجْرَى الوَقْفِ، فَأَلْقى حرَكَةَ الهَمْزَةِ على الفاءِ وحَذَفَها فصارَ اللفظُ بِها "يوسُفَ اعْرضْ" وهذا كَما حُكِي: "اللهَ أَكْبَرَ اشْهَدَ أَلَّا" بالوصل والفتح في الجلالة، وفي أَكْبَرَ، وفي أَشْهَدَ، وذَلِكَ أَنَّهُ قدَّرَ الوَقْفَ عَلى كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ هذِهِ الكَلِمِ، وأَلْقَى حَرَكَةَ الهَمْزَةِ مِنْ كُلٍ مِنَ الكَلِمِ الثَّلاثِ عَلى الساكِنِ قَبْلَهَ، وأَجْرَى الوَصْلَ مُجْرَى الوَقْفِ في ذَلِكَ، والذي حَكَاهُ النَّاسُ إنَّما هوَ في "أَكبرَ" خاصَّةً لأَنَّها مَظِنَّةُ الوَقْفِ. وقرِئَ "يوسُفُ أَعْرَضَ" بِضَمِّ الفاءِ و "أَعْرَضَ" فعلًا ماضيًا، وتَخريجُها أَنْ يَكونَ "يوسف" مبتدأً، و "أَعْرَضَ" جُمْلَةً مِنْ فعلٍ وفاعِلٍ خَبَرُهُ. وفيه ضعف لقولِهِ: "واستغفِري"، وكانَ الأَشْبَهُ أَنْ يَكونَ بالفاءِ: فاستغفري.