فيض العليم ... سورةُ يوسُف، الآية: 95
قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ
(95)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} هو مِنْ قولِ بَنِي بَنِيهِ له، نُقِلَ ذلكَ عَنِ الكَلْبِيِّ والسُدِّيِّ وغيرِهما منَ المُفسِّرينَ ـ رضيَ اللهُ عنهم أجمعين، والمعنى: إنَّكَ لَفِي تَرْكِكَ القديمِ للصَّوابِ وذَهابِكَ عَنْهُ، بإفراطِكَ في محبَّةِ يوسفَ، ولَهْجِكَ الدائمِ بِذِكْرِهِ، وَعَدَمِ السُّلُوِّ عَنْهُ، وَعَدَمِ نِسْيَانِ أَمْرِهِ، وَالاعْتِقَادِ أَنَّهُ مَا زَالَ حَيًّا، ورجائِك للقائِهِ، لأنَّهم كانوا يظنَّونَ أَنَّهُ قدْ ماتَ. وكانَ قَدْ تجدَّدَ حُزْنُهُ بفَقْدِ بِنْيامينَ، ولذلِكَ قيلَ فيهِ: (ذُو الحُزْنَيْنِ). وليسَ المرادُ بالضَّلالِ هنا ما هوَ في العُرْفِ ضِدُّ الرِّشادِ؛ لأنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنَ الجَفَاءِ الذي لا يَسُوغُ لهم مُواجَهَةُ أبيهم به.
قالَ ابنُ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: لَفِي خَطَئِكَ القَديمِ. وقال قتادةُ ـ رضي الله عنه: أَيْ: مِنْ حُبِّ يُوسُفَ، لا تَنْساهُ ولا تَسْلاهُ، قالوا لِوالِدِهم كَلِمَةً غَليظَةً، لَمْ يَكُنْ يَنْبَغي لَهم أَنْ يَقولوها لِوالدِهم، ولا لِنَبِيِّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولَعَلَّهم إنَّما قالوا ذَلِكَ لِظَنِّهم أَنَّ يوسُفَ قد ماتَ. وكذا قالَ السُّدِّيُّ، وغيرُهُ. وقالَ مُقاتِلٌ ـ رضي اللهُ عنه: هوَ الشَّقاءُ والعَنَاءُ. وقِيلَ: هو الهلاكُ والذَّهابُ. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عنْ مُجاهدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، أَنَّ الضَّلالَ هُنَا بِمَعْنَى الحُبِّ. وأَخرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رضيَ اللهُ عنه، أنَّهُ فَسَّرَهُ بالجُنونِ، وهوَ مِمَّا لا يَليقُ.
والضَّلَالُ: هو الْبُعْدُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إلى الغايةِ. وَالظَّرْفِيَّةُ هنا مَجَازٌ فِي قُوَّةِ الِاتِّصَافِ وَالتَّلَبُّسِ وَأَنَّهُ كَتَلَبُّسِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ، وهو مِنْ قولِهم: ضَلَّ الماءُ في اللَّبَنِ، أَيْ ذَهَبَ فيهِ وتلاشى.
ولْيَقُلِ الخَلِيُّ في الشَّجِيِّ ما شاءَ أَنْ يَقولَ، فإنَّ أُذْنُهُ عَنِ العَذْلِ صَمَّاءُ، قال الشاعرُ محمد الشيرازي:
سَلْوَتِيْ عَنْكُمُ احْتِمَالٌ بَعِيْدٌ .............. وَافْتِضَاحِيْ بِكُمْ ضَلاَلٌ قَدِيْمُ
كُلُّ مَنْ يَدَّعِيْ الْمَحَبَّةَ فِيْكُمُ .............. ثُمَّ يَخْشَى الْمَلاَمَ فَهُوَ مُلِيْم
قولُهُ تَعَالى: {قَالُوا تَاللهِ} قَالُوا: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعلُهُ، والألِفُ فارقةٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "تَاللهِ" حرفُ جَرٍّ متعلّقٌ بِفعلِ قَسَمٍ مَحْذوفٍ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" اسْمٌ مَجرورٌ بحرفِ الجرِّ، والجملةُ المَحْذوفَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولَ القولِ لـ "قَالُوا".
قولُهُ: {ِإنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} إنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ نَصبِ اسْمِهِ. و "لَفِي" اللامُ: هي المزحلقةُ للتوكيدِ، حرفُ ابْتِداءٍ. و "في" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بخبَرِ "إنَّ" المحذوفِ، و "ضَلالِكَ" مَجرورٌ بهِ، مضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على الفتحِ في الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. و "الْقَدِيمِ" صِفَةٌ لـِ "ضَلَالِ" مجرورةٌ مثله، وجُمْلَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ مقولَ القولِ لِـ "قَالُوا" عَلَى كَوْنِها جَوابَ القَسَمِ.