فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 79
قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
قولُهُ ـ عَزَّ وجَلَّ: {قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} مَعاذَ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ اسْمٌ لِلْعَوْذِ، وَهُوَ اللَّجَأُ إِلَى مَكَانٍ لِلتَّحَصُّنِ. أي لسنا في حاجةٍ إلى أنْ نأْخُذَ رجلًا بريئًا لم يقترف ذنبًا بدلًا من آخرَ سَرَقَ صواعنا ووجدناه بحوزته مُخبَّأً في رِحالِهِ. فالغايةُ القصاصُ مِنَ السارقِ وليستِ اسْتِرْقاقَ البَشَرِ. فلسنا من الظالمين ولم يَجْعَلْنَا اللهُ تعالى محتاجينَ لمثلِ هذا فإنَّ لدينا الكثير من العبيد والخدَمِ والعاملين في خدمتنا. فإنَّنا نَلْجَأُ إِلَى اللهِ تعالى أَنْ يَعْصِمَنَا مِنْ أَخْذِ مَنْ لَا حَقَّ لَنَا فِي أَخْذِهِ، أَيْ أَنْ يَعْصِمَنَا مِنَ الظُّلْمِ لِأَنَّ أَخْذَ مَنْ وُجِدَ الْمَتَاعُ عِنْدَهُ صَارَ حَقًّا عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ التَّحْكِيمَ لَهُ قُوَّةُ الشَّرِيعَةِ. وَأَمَّا أَخْذُ غَيْرِهِ فَلَا يَسُوغُ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَرِقَّ نَفْسَهُ بِغَيْرِ حُكْمٍ، وَلِذَلِكَ عُلِّلَ الِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ لَكَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا. وَدَلِيلُ التَّعْلِيلِ شَيْئَانِ: وُقُوعُ إِنَّ فِي صَدْرِ الْجُمْلَةِ، وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ الْجَزَاء وَهُوَ إِذًا.
قولُه: {إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} فإذا فعلناها وأَخذنا البريءَ رقيقًا كنا من الظالمين وقد عَصَمَنَا اللهُ من ذلك. وَضَمَائِرُ نَأْخُذَ ووَجَدْنا ومَتاعَنا وإِنَّا ولَظالِمُونَ مُرَادٌ بِهَا الْمُتَكَلِّمُ وَحْدَهُ دُونَ مُشَارِكٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنِ اسْتِعْمَالِ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي التَّعْظِيمِ حِكَايَةً لِعِبَارَتِهِ فِي اللُّغَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا فَإِنَّهُ كَانَ عَظِيمَ الْمَدِينَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتُعْمِلَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ تَوَاضُعًا مِنْهُ تَشْبِيهًا لِنَفْسِهِ بِمَنْ لَهُ مُشَارِكٌ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَوْجُودٌ فِي الْكَلَامِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْخَضِرِ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} الْآيَتَان: 80 و 81 مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُكَاشِفْهُمْ يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِحَالِهِ وَيَأْمُرْهُمْ بِجَلْبِ أَبِيهِمْ يَوْمَئِذٍ: إِمَّا لِأَنَّهُ خَشِيَ إِنْ هُوَ تَرَكَهُمْ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ أَنْ يَكِيدُوا لِبِنْيَامِينَ فَيَزْعُمُوا أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ جَمِيعًا إِلَى أَبِيهِمْ فَإِذَا انْفَرَدُوا بِبِنْيَامِينَ أَهْلَكُوهُ فِي الطَّرِيقِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ بَيْنَ الْقِبْطِ وَبَيْنَ الْكَنْعَانِيِّينَ فِي تِلْكَ الْمدَّة عَدَاوَة فَخَافَ إِنْ هُوَ جَلَبَ عَشِيرَتَهُ إِلَى مِصْرَ أَنْ تَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ وَإِلَيْهِمْ ظُنُونُ السُّوءِ مِنْ مَلِكِ مِصْرَ فَتَرَيَّثَ إِلَى أَنْ يَجِدَ فُرْصَةً لِذَلِكَ، وَكَانَ الْمَلِكُ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَفَاءِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَكْرَهُهُ أَوْ يُسِيءُ ظَنَّهُ، فَتَرَقَّبَ وَفَاةَ الْمَلِكِ أَوِ السَّعْيَ فِي إِرْضَائِهِ بِذَلِكَ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْلِمَ مِنْ أَخِيهِ فِي مُدَّةِ الِانْفِرَادِ بِهِ أَحْوَالَ أَبِيهِ وَأَهْلِهِمْ لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَأْتِي بِهِمْ أَوْ بِبَعْضِهِمْ.
ولَعَلَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ يوسُفَ ـ عليهِ السلامُ، أَنْ يَأْخُذَ أَخَاهُ بِنْيامِينَ وَنَهَاهُ عَنِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَأَخْذِ الْبَدَلِ، كَمَا أَمَرَ تَعَالَى الخَضِرَ صَاحِبَ مُوسَى ـ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، بِقَتْلِ الطِفْلِ الذي لَوْ بَقِيَ لَطَغَى وكَفَرَ كما جاءَ في سُورَةِ الكَهْفِ، وذَلِكَ تَشْدِيدًا لِلْمِحْنَةِ عَلَى يَعْقُوبَ ـ عليه السلامُ، لِيَصْبِرَ على قَضاءِ اللهِ تَعالى وقَدَرِهِ، فيُعظِمَ أَجْرَهَ ويَرْفَعِ مَقَامَهُ، ولِتَكونَ فَرْحَتُهُ بِلِقائِهِمَا أَعْظَمَ.
قولُهُ تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللهِ} قَالَ: فعلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تَقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلَى "يُوسُفُ" ـ عليه السلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "مَعَاذَ" مَنْصوبٌ على المَفْعولِيَّةِ المُطْلَقَةِ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ وُجوبًا تَقْديرُهُ: نَعُوذُ بِاللهِ مَعَاذًا؛ أَيْ: نَتَعَوَّذُ باللهِ تَعَوُّذًا، وهو مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مُضافٌ إليه، والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ".
قولُهُ: {أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} أَنْ: حرفٌ ناصِبٌ مصدريٌّ، و "نَأْخُذَ" فعلٌ مضارعٌ منصوبٌ بِهِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ "نحنُ" يَعودُ عَلَى "يوُسُفُ" ـ عليهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مجرورٍ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحذوفٍ تقديرُهُ: نَعوذُ باللهِ مِنْ أَخْذِنَا إلّا مَنْ وَجَدْنا متاعَنا عندَهُ. و "إِلَّا" أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في مَحلِّ النَّصْبِ، مَفعولٌ بِهِ. و "وَجَدْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضمير رفعٍ متحرِّكٍ، هو "نا" الجماعة، و "نا" ضميرُ جماعةِ المتكلمين متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، و "مَتَاعَنَا" مَفعولٌ به منصوبٌ، وهو مضافٌ، و "نا" ضمير جماعة المتكلمينَ متَّصلٌ به، مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِليْهِ. و "عِنْدَهُ" منصوبٌ على الظَرفيَّةِ المَكانِيَّةِ، مُتَعلِّقٌ ب "وجد" وهو مضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه. والجُملةُ صِلَةُ الاسمِ الموصولِ "مَنْ".
قولُه: {إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} إِنَّا: إِنَّا: حرفٌ ناصِب ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نَصْبِ اسْمِهِ. و "إِذًا" حَرْفُ جَوابٍ وجَزَاءٍ لا عَمَلَ لَهَا؛ لِعَدَمِ دُخُولِها عَلَى الفِعْلِ. و "لَظَالِمُونَ" اللامُ المزحلقةُ للتوكيدِ، (حرف ابتداء)، و "ظالمون" خَبَرُ "إنَّ" مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السَّالِمُ، وجُملَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِ "قَال" مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَها.