فيض العليم ... سورةُ يوسُفُ، الآية: 60
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ} تهَديدٌ لهُمْ مِنْ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بمْنَعُ عَنْهُمْ المِيرَةَ عنْهُمْ فِي المَرَّةِ القَادِمَةِ إِنْ لَمْ يَأْتُوهُ بِأَخِيهِمْ بِنْيامِينَ مَعَهُمْ، فيكونُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قد جَمَعَ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَمَّا أرادَ مِنْهُمْ إِحْضَارَ أَخِيهِ بِنْيَامينَ. أَمَّا التَّرْغِيبُ: فَهُوَ قَوْلُهُ في الآية التي قبلها: 59: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ؟} وَأَمَّا التَّرْهِيبُ: فَهُوَ قَوْلُهُ هنا: "فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ".
قولُهُ: {فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي} أَيْ: فلا أَبيعُكمْ شَيْئًا فيما بَعْدُ فَضْلًا عَنْ إيفائهِ، قال لهم ذَلِكَ، وَهُوَ يَعْلَمَ أَنَّ المَعَادَ مَعَادُ قَحْطٍ وجَدْبٍ ومَجَاعَةٍ. وهذا نهايةُ التَّخْويفِ لأَنَّهم كانوا مُحْتَاجينَ إِلى تَحْصيلِ الطَّعامِ، ولا يُمْكِنُ ذلك إِلَّا مِنْ عِنْدِهِ، فإذا مَنَعَهمُ المِيرَةَ فقدْ ضَيَّقَ عَلَيْهم وجوَّعهم.
قولُهُ: {ولا تقربون} أَيْ لَا أُنْزِلُكُمْ عِنْدِي مَنْزِلَةَ الْقَرِيبِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ يَبْعُدُونَ مِنْهُ وَلَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ولا يقرَبون بلادَهُ البتَّةَ. وذَلِكَ لِأَنَّهُ حَثَّهُمْ عَلَى الْعَوْدِ وَاسْتَبْقَى شَمْعُونَ عِنْدَهُ رَهينهً حَتَّى يَرْجِعُوا، كما نَقَلَ ابْنُ أبي حاتمٍ عَنِ السُّدِّيِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَارْتَهَنَ شَمْعُونَ عِنْدَهُ، وذلكَ لأنَّهُ كان قدْ أعطاهم حِمْلَيْ بَعِيرٍ زِيادَةً عَمَّا كانَ يُعْطي في العادةِ، واحدًا لأَبيهم وواحدًا لأخيهم بِنْيَامِينَ. ولمَّا كان مِنَ المُتَعَذِرِ عليهم إتيانُهم بِأَبيهم لِكِبَرِ سِنِّهِ فقد طلَبَ منهم أنْ يأتوا بأَخِيهم كَدَلِيلٍ عَلَى صِدْقِهم فيما ادَّعوا. وقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّمَا اخْتَارَ شَمْعُونَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْجُبِّ أَجْمَلَهُمْ قَوْلًا، وَأَحْسَنَهُمْ رَأْيًا. وأخرجَ ابْنُ أبي حاتمٍ عَنِ محمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ـ رضي اللهُ عنه: "فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي" فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا تَقْرَبُوا بَلَدِي، فَإِنَّهُ: "لَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ".
قولُهُ تَعَالى: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ} الفاءُ: هي الفاءُ الفَصيحَةُ؛ لأَنَّها أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تَقديرُهُ: إذا عَرَفْتُم ما قُلْتُ لَكمْ، وأَرَدْتُمْ بيَانَ شَأْنِكم إذا لم تَأْتوني بِهِ، فأَقولُ لَكمْ "إنْ لَّم تَأْتوني بِهِ فلا كيلَ لكم ...". و "إِنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جازِم. و "لَمْ" حَرْفُ نَفْيٍ وقلبٍ وجزْمٍ. و "تَأْتُونِي" فعْلٌ مضارعٌ مجزومٌ به، وعلامةُ جَزْمِهِ حذفُ النونِ من آخرِهِ لأنَّهُ من الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ نَصْبِ مفعولٍ بِهِ، والنونُ للوِقايةِ. و "بِهِ" الباءُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ الجَزْمِ بـِ "إنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلى كونِها فِعْلَ شَرْطٍ لَها.
قولُهُ: {فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي} الفاءُ: رابِطَةٌ لَجَوابَ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ وُجُوبًا. و "لا" نافية للجنسِ تعملُ عملِ "إنَّ" . و "كَيْلَ" في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهَا. و "لَكُمْ" جارٌّ ومَجرورٌ في محلِّ الرفعِ خبَرُ "لا" النافِيَةِ، والجُمْلَةُ الاسميَّةُ هذه في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلَى أَنَّها جَوابٌ لها. و "عندي" مَنْصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بالخَبَرِ، وعلامَةُ النَّصْبِ الفَتْحَةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى ما قَبْلَ الياءِ، لانشغال المحلِّ بالحركةِ المناسبةِ لياء المتكلِّمِ وهو مضافٌ، وياءُ المُتَكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {وَلَا تَقْرَبُونِ} والواوُ: عاطفةٌ، و "لا" ناهيةٌ جازمةٌ، و "تقربون" فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ بها، وعلامةُ جزمِهِ حَذْفُ النُّونِ مِنْ آخرِهِ لآنَّهُ من الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والنُّونُ هذه للوِقايةِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ المحذوفةِ تَخْفيفًا ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبِ مفعولٍ به، ويُحْتَمَلُ أَنْ تَكونَ "لا" نافيَةً وفيهِ وَجْهانِ، أَحَدُهُما: أَنْ يَكونَ داخِلًا في حَيِّزِ الجَزَاءِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، فيَكونَ أَيْضًا مَجْزُومًا على مَا تقدَّمَ. ويحتملُ أَنَّهُ نَفْيٌّ مُسْتَقِلٌّ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى جَزَاءِ الشَّرْطِ، وهوَ خَبَرٌ في مَعْنَى النَّهْيِ كَقَوْلِهِ في الآيةِ: 197 من سورة البقرة: {فَلاَ رَفَثَ}. وجملةُ: "وَلَا تَقْرَبُونِ" في مَحَلِّ الجَزْمِ عطْفًا عَلى جُمْلَةِ "لا" النافِيَةِ عَلَى كَوْنِها جَوابًا لِـ "إنْ" الشَّرْطِيَّةِ، وجُمْلَةُ "إنْ" الشَّرْطِيَّةِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِجَوابِ "إِذا" المُقَدَّرَةِ، وجُمْلَةُ "إذا" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيَانِيًّا لا محلَّ لها من الإعراب.