فيض العليم .. سورة يوسُف، الآية: 71
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ} أيْ: قالوا مُقْبِلينَ عَلَيْهِمْ، وقد جيءَ بِهذَهَ الجملةِ للدَّلالَةِ عَلَى انْزِعَاجِهِمْ مِمَّا سَمِعُوهُ لِمُبايَنَتِهِ لِحالِهمْ، لأَنَّهُمْ اسْتَنْكَرُوا مَا قُذِفُوا بِهِ مَعَ ثِقَتِهم بِأَنْفُسِهم واطْمِئْنانِهم لأمانَتَهِم، وترفُّعهم عَنِ السَّرِقَةِ وخيانةِ المَلِكِ الذي أكرمَ وِفادتهم وأَحْسَنَ ضيافتَهم، لذلك فقد اسْتَفْهَمُوا اسْتِفْهامَ المَبْهوتِ.
قولُهُ: {مَاذَا تَفْقِدُونَ} أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ تَفْقِدونَهُ، ومَا الذي أَضَعْتُموهُ؟. وقد عَدَلوا في سُؤالِهم هذا عَمَّا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ مِنْ مِثْلِ قولِهم: ماذا سُرِقَ مِنْكمْ؟ لِبَيانِ كَمَالِ نَزَاهَتِهم بِأَنَّهُ لَم يُسْرَقْ مِنْهُمْ شَيْءٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكونُوا هُمُ السَّارِقينَ لِهذا الشيْءِ، وإنَّما مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَكونَ قدْ ضَاعَ مِنْهم هذا الشَّيْءُ، فسأَلوهم ما هوَ هذا الشَّيْءُ. والفَقْدُ عَدَمُ الشَّيْءِ بَعْدَ وُجُودِهِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ العَدَمِ، ويُقَالُ أَيْضًا لِمَا لَمْ يُوجَدُ أَصْلًا، وقيلَ: هوَ عَدَمُ الشَّيْءِ بِأَنْ يَضِلَّ عَنْكَ لا بِفِعْلِكَ، وقدْ أَتَى بِصِيغَةِ المُسْتَقْبَلِ لاسْتِحْضارِ الصُّورَةِ.
قولُهُ تَعَالى: {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ} قَالُوا: فعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ رَفعِ فاعلِهِ، والأَلِفُ فارقةٌ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "وَأَقْبَلُوا" الواو: واوُ الحَالِ. و "أَقْبَلُوا" فعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ رَفعِ فاعلِهِ، والأَلِفُ فارقةٌ. و "عَلَيْهِمْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وضميرُ الغائبين في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والجُملةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ فاعِلِ "قَالُوا".
قولُهُ: {مَاذَا تَفْقِدُونَ} مَاذَا: اسْمُ اسْتِفْهامٍ مُرَكَّبٌ مبنيٌّ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفعولٌ بهِ مُقَدَّمٌ وُجُوبًا، أَوْ نقولُ: "ما" اسْمُ اسْتِفْهامٍ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، و "ذا" اسْمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى "الذي" مبنيٌّ في محلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِ "قَالُوا". و "تَفْقِدُونَ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخِرهِ والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، وهذه الجملةُ الفعليَّةُ هي صِلَةُ المَوْصُولِ، والعائدُ مَحذوفٌ والتقديرُ: تَفْقِدونَهُ.
قَرَأَ العامَّةُ: {تَفْقِدون} بِفَتْحِ حَرْفِ المُضَارَعَةِ؛ لأَنَّ المُسْتَعْمَلَ مِنْهُ "فَقَد" الثُلاثيّ. وقرَأَ أبو عبد الرحمنِ السُّلَميُّ "تُفقِدونَهُ" بِضَمِّها، مِنْ أَفْقَدْتُهُ إذا وَجَدْتُه مَفْقُودًا، كَ "أَحْمَدْتُه" أَيْ: وَجَدْتُهُ مَحْمُودًا، و "أَبْخَلْتُه" إذا وَجَدْتُهُ بَخيلًا. وَقد ضَعَّفَ أَبو حاتِمٍ هَذِهِ القِراءَةَ.