فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 39
يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39)
قوله ـ تَبَارَكَ وتَعالى: {يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ} أيْ: يا صاحِبَيَّ في السِّجْنِ، فَالْإِضَافَةُ هُنَا عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ، مِثْلَ: مَكْرُ اللَّيْلِ والنهار، أو كما قيلَ لِسُكَّانِ الْجَنَّةِ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ}، وَلِسُكَّانِ النَّارِ: {أَصْحَابُ النَّارِ}. فقد وجَّهَ الْخِطَابَ إِلَى الْفَتَيَيْنِ بِطَرِيقِ النِّدَاءِ الْمُسْتَرْعِي سَمْعَهُمَا إِلَى مَا يَقُولُهُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَناداهما بوَصْفِ الصُّحْبَةِ فِي السَّجْنِ دُونَ اسْمَيْهِمَا لِمَا حَدَثَ مِنَ الصِّلَةِ بَيْنَهُمَا وَهِيَ صِلَةُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الضَّرَّاءِ الْإِلْفَ فِي الْوَحْشَةِ، فَإِنَّ الْمُوَافَقَةَ فِي الْأَحْوَالِ صِلَةٌ تَقُومُ مَقَامَ صِلَةِ الْقَرَابَةِ أَوْ تَفُوقُهَا، أَو لِجَهْلِ اسْمَيْهِمَا عِنْدَهُ إِذْ كَانَا قَدْ دَخَلَا السِّجْنَ مَعَهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ قَبْلَ أَنْ تَطُولَ الْمُعَاشَرَةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ.
قولُه: {أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ لِإِبْطَالِ دِينِهِمَا، رَتَّبَ لَهُمَا الاسْتِدْلالَ عَلَيْهِ بِأُسْلوبِ الخِطَابِ القَرِيبِ مِنْ أَفْهَامِ الْعَامَّةِ، حيثُ فَرَضَ لَهُما إِلَهًا وَاحِدًا مُسْتَفْرِدًا بِالْإِلَهِيَّةِ، في مُقابِلِ آلِهَةً مُتَفَرِّقِينَ يَتَصَرَّفُ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي أُمورَ مُعَيَّنَةٍ مِمَّا هُوَ تَحْتَ سُلْطَانِهِ لَا يَعُدُّوهَا إِلَى مَا هُوَ مِنْ نِطَاقِ سُلْطَانِ غَيْرِهِ مِنْهُمْ. لِيَصِلَ إِلَى إِقْنَاعِهِمَا بِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ بِالْإِلَهِيَّةِ أَعْظَمُ وَأَغْنَى، وذَلِكَ لِيَرْجِعَا عَنِ اعْتِقَادِهِما الفَاسِدِ، عَقيدَةِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. ونظيرُ هذِهِ الآيةِ قولُهُ تعالى في سُورَةِ النَّمْلِ: {آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} الآية: 59. أَيْ: أَعِبَادَةُ أَرْبابٍ شَتَّى مُتَفَرِّقينَ، هَذَا مِنْ ذَهَبٍ، وَهَذَا مِنْ فِضَّةٍ، وَهَذَا مِنْ حَدِيدٍ. وَهَذَا أَعْلَى، وَهَذَا أَوْسَطُ، وَهَذَا أَدْنَى، وهذا أَكْبَرُ وهذا أَصْغَرُ. مُتَبَايِنونَ، "خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ" أَمْ عِبَادَةُ المَعْبودِ الواحِدِ الذي لا ثانِيَ لَهُ في قُدْرَتِهِ وسُلْطانِهِ. "الْقَهَّارُ" الْغَالِبُ فلَا غالبَ لَهُ، الذي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وذَلَّلَهُ وسَخَّرَهُ، فأَطاعَهُ وذلَّ لإرادَتِهِ طَوْعًا وكَرْهًا، ثُمَّ بَيَّنَ عَجْزَ الْأَصْنَامِ بأَنَّها لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "خَيْرٌ" هُنَا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْخَيْرِ عِنْدَ الْعَقْلِ، أَيِ الرُّجْحَانِ وَالْقَبُولِ. وَالْمَعْنَى: اعْتِقَادُ وُجُودِ أَرْبَابٍ مُتَفَرِّقِينَ أَرْجَحُ أَمِ اعْتِقَادُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ، وذلك حَتَّى يَنْجَلِيَ لَهُمَا فَسَادُ اعْتِقَادِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، ليَتَبَيَّنَ لَهُمَا أَنَّ حال أَرْبَابٍ مُتَفَرِّقِينَ لَا يَخْلُو مِنْ فَسَادٍ وَخَلَلِ فِي تَصَرُّفاتهم، كَمَا يشعرُ بِهِ وَصْفُهم بالتَّفَرُّقِ.
وأَخْرجَ ابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: لَمَّا عَرَفَ نَبِيُّ اللهِ يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّ أَحَدَهُمَا مَقْتُولٌ دَعاهُما إِلَى حَظِّهِما مِنْ رَبِّهِما وَإِلَى نَصِيبِهِمَا مِنْ آخِرَتِهِمَا.
وَقِيلَ: الْخِطَابُ لَهُمَا وَلِأَهْلِ السِّجْنِ، وَكَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أَصْنَامٌ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، فَقَالَ ذَلِكَ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ، وَقِيلَ: أَشَارَ بِالتَّفَرُّقِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَ الْإِلَهُ لَتَفَرَّقُوا فِي الْإِرَادَةِ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا إِذَا تَفَرَّقَتْ لَمْ تَكُنْ آلِهَةٌ.
قَوْلُهُ تَعالى: {يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ} يا: أَداةُ نِداءٍ للمُتَوَسِّطِ بُعدُهُ، و "صاحبَيْ" مُنَادى مُضافٌ منصوبٌ، وعَلامةُ نَصْبِ الياءُ لأنَّهُ مثنَّى، وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقولُ "قَالَ"، وهو مِنْ إِضافَةِ الوَصْفِ إِلَى الظَّرْفِ؛ أَيْ: يا صاحِبَيْنِ لِي في السِّجْنِ، أَوْ مِنْ بابِ الإضافَةِ إِلى الشَّبيهِ بالمَفعولِ، والمَعْنَى: يا ساكِنَيِ السِّجْنِ.
قولُه: {أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ} و "أَأَرْبَابٌ" الهَمْزَةُ للاسْتِفْهامِ التَقْريريِّ. و "أرباب" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ. و "مُتَفَرِّقُونَ" صِفَةٌ لَهُ مرفوعةٌ مثله، وعلامةُ الرفعِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عَنِ التَنْوينِ في الاسمِ المُفرَدِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ" عَلَى كَوْنِهَا جوابَ النِّداءِ. و "خَيْرٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ.
قوله:{أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} و "أَمِ" عاطفَةٌ مُتَّصِلَةٌ مُعَادِلةٌ لِهَمْزَةِ الاسْتِفْهامِ. و "اللهُ" معطوفٌ عَلَى المبتَدَأِ "أربابٌ" مرفوعٌ مثلَهُ. و "الْوَاحِدُ" صِفَةٌ أُولى للفظِ الجَلالَةِ مرفوعةٌ مِثْلَهُ. و "الْقَهَّارُ: صِفَتُهُ الثانية.