فيض العليم، سورة يوسف، الآية: 91
قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
قولُهُ ـ تَعالى شأْنُهُ: {قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا} أَيْ: لقد فضَّلكَ اللهُ عَلَيْنا بالعِلْمِ والحِلْمِ والعَقْلِ والفَضْلِ والحُسْنِ والمُلْكِ، فآثَرَهُ إِيثارًا: فضَّلَهُ تفضيلًا، تَقولُ: فلانٌ أَثيرٌ عِنْدي، أَوْ ذُو أَثَرَةٍ عِنْدي، إِذا كانَ ذا خُصوصِيَّةٍ عِنْدَكَ، تُؤْثِرُهُ بِصِلَتِكَ وفَضْلِكَ. وأَصْلُهُ مِنَ الأَثَر، وهوَ تَتَبُّعُ الشَّيْءِ. واسْتَأْثَرَ فلانٌ بِكَذا، أَي: اخْتَصَّ بهِ نفسَهُ، فقد جاءَ في الحديثِ الشريفِ أنَّهُ ـ صلّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ قال: ((سَتَكونُ بَعْدي أَثَرَةٌ))، أَيْ: سيَسْتَأْثِرُ بَعْضُكُم عَلى بَعْضٍ. ويقالُ أيضًا: اسْتَأْثَرَ اللهُ بِفلانٍ إذا اصْطَفاه، ومن ذلك قولُ الراجزِ أبي خالد القَنَاني:
والله أَسْماك سُمًا مُبارَكًا ........................... آثَرَكَ اللهُ بِهِ إِيثارَكا
وَهذا أَنَّهُمْ عَرَفُوا مقامَهُ ومَرْتَبَتَهُ عنْدَ ربِّهِ، فصِيغَةُ الْيَمِينِ "تاللهِ" مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ، وَهِيَ عِلْمُهُم ويَقِينُهُمْ بِأَنَّ مَا وصَلَ إليهِ وما نَالَهُ وما هو فيهِ هُوَ تَفْضِيلٌ لَهُ مِنَ اللهِ.
قولُهُ: {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} أَيْ: مُخْطِئينَ، مُذْنِبينَ، مجرمين، آثمينَ في أَمْرِكَ، وما فعَلْنَاهُ مَعَكَ، وَقَدْ أَكَّدُوا ذَلِكَ بِ "إِنَّ" واللامِ المُزَحْلَقَةِ. إِذًا لَقَدْ نَفَعَتْ فِيهِمُ الْمَوْعِظَةُ فاعْتَرَفوا بِجَرِيمَتِهم واعتذروا لأَخيهم، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الَّذِي اعْتَذَرُوا مِنْهُ هُوَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى إِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ وَبَيْعِهِ وَتَبْعِيدِهِ عَنِ الْبَيْتِ وَالْأَبِ، وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ ـ مِنْ أَئمَّةِ المُعْتَزِلَةِ: إِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَذِرُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَا يَكُونُ ذَنْبًا فَلَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا اعْتَذَرُوا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ أَخْطَئُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ لَمْ يُظْهِرُوا لِأَبِيهِمْ مَا فَعَلُوهُ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ حَيٌّ وَأَنَّ الذِّئْبَ لَمْ يَأْكُلْهُ وَفيه ضَعْفٌ لأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ أَقْدَمُوا عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ فِي زَمَنِ الصِّبَا لِأَنَّهُ مِنَ الْبَعِيدِ فِي مِثْلِ يَعْقُوبَ أَنْ يَبْعَثَ جَمْعًا مِنَ الصِّبْيَانِ غَيْرِ الْبَالِغِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ رَجُلًا عَاقِلًا يَمْنَعُهُمْ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي.
وَ "خاطِئينَ" جَمُعُ خَاطِئٍ، وهوَ مُرْتَكِبُ الْخَطِيئَةِ، أَيِ الْجَرِيمَةِ، والخاطئُ هو المُصِرُّ على ارْتِكابِها، عن سابقِ إِصْرارٍ ومَعْرِفَةٍ.
قولُهُ تعالى: {قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا} قَالُوا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بِواوِ الجماعَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والأَلفُ هي الفارقةُ، والجُملةُ الفعليَّةُ هذِهِ مُستَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ. و "تَاللَّهِ" التاءُ: حرفُ جرٍّ للقَسَمِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفٍ وُجوبًا تقديرُه نُقْسِمُ، والجملة المَحْذوفَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِ "قَالُوا"، ولفظُ الجَلالَةِ "اللهِ" مَجْرورٌ بِتَاءِ القَسَمِ. و "لَقَدْ" اللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "قد" حَرْفٌ للتَحْقيقِ. و "آثَرَكَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ النصبِ مَفعولٌ بهِ ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعلُهُ مرفوعٌ. و "عَلَيْنَا" حرفُ جرٍّ متعلقٌ بِهِ، و "نا" ضميرُ المتكلمينَ المتَّصلُ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ مقولَ القولِ لِ "قَالُوا" عَلى كَوْنِها جَوابَ القَسَمِ.
قولُهُ: {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} الواو: عاطفةٌ. و "إنْ" حرفٌ ناصبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، وهي مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقيلَةِ، واسمُها ضَميرُ الشَّأْنِ. و "كُنَّا" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ و "نا" ضميرُ المتكلِّمين المُتَّصِلُ مبنيٌّ على السكونِ في محلّ ِالرفعِ اسْمُهُ، و "لَخَاطِئِينَ" اللامُ: هي المُزَحْلَقَةُ، حَرفُ ابْتِداءٍ، و "خَاطِئِينَ" خبرُهُ منصوبٌ به وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمع المذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسْمِ المفردِ، وجملةُ "كان" في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا ل "إنْ" المُخَفَّفَةِ، وجُمْلَةُ "إنْ" المُخَفَّفَةِ مَعْطوفةٌ عَلى جَوابِ القَسَمِ.