فيض العليم ... سورةُ يوسُفُ، الآية: 58
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
قولُهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤهُ: {وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ} لَمَّا انْقَضَتْ أَعْوامُ الخِصْبِ، وحَلَّ الْقَحْطُ فعَمَّ الْبِلَادَ حَتَّى وَصَلَ الْبَلْدَةَ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا يَعْقُوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وبَنُوهُ، وَصَعُبَ الزَّمَانُ عَلَيْهِمْ، قَالَ لِبَنِيهِ إِنَّ بِمِصْرَ رَجُلًا صَالِحًا يَمِيرُ النَّاسَ، فَاذْهَبُوا إِلَيْهِ بِدَرَاهِمِكُمْ وَخُذُوا الطَّعَامَ، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ وَهُمْ عَشَرَةٌ، وَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فكانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي اجْتِمَاعِهم بِيُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتحَقُّقِ مَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ يُوسُفَ عِنْدَمَا أَلْقَوْهُ فِي الْجُبِّ: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} الآيةَ: 15، السَّابِقَةَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبارَكَةِ.
قولُهُ: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ يُوسُفَ ـ عليهِ السَّلامُ، عَرَفَهُمْ وَمَا عَرَفُوهُ الْبَتَّةَ، وذَلِكَ إِمَّا لأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اللهُ قَدْ أَخْبَرَهُ بذلكَ بِقَوْلِهِ: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ} فعَلِمَ أَنَّهُمْ سَيَأْتونَ إِلَيْهِ وَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِ، كَمَا عَلِمَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنَ الرُّؤْيَا الَّتِي كانَ قد رَآهَا فإنَّ فيها دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمْ سيَصِلُونَ إِلَيْهِ، ولِهَذَا السَّبَبِ كَانَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مُتَرَصِّدًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ، فكَانَ كُلُّ مَنْ وَصَلَ إِلَى بَابِهِ مِنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ يَتَفَحَّصُ عَنْهُمْ وَيَتَعَرَّفُ أَحْوَالَهُمْ، لِيَعْرِفَ إنْ كانوا إِخْوَتَهُ أَمْ لَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِخْوَتُهُ إِلَى بَابِهِ وعَرَفَ أَحْوَالَهُمْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُمْ إِخْوَتُهُ. وَلم يَعْرِفُوهُ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَرَ حُجَّابَهُ بِأَنْ يُوقِفُوهُمْ مِنَ الْبُعْدِ وَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ إِلَّا بِالْوِساطَةِ، ولَا جَرَمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهُ سِيَّمَا أَنَّ مَهَابَةَ الْمَلِكِ وَشِدَّةَ الْحَاجَةِ يُوجِبَانِ كَثْرَةَ الْخَوْفِ، وَذَلِكَ كلُّهُ يَمْنَعُ مِنَ التَّأَمُّلِ التَّامِّ الَّذِي تَحْصُلُ به المعْرِفَةُ. ثُمَّ إِنَّهُمْ حِينَ أَلْقَوْهُ فِي الْجُبِّ كَانَ صَغِيرًا. وما رَأَوْهُ بَعْدَ وُفُورِ اللِّحْيَةِ، وَتَغَيُّرِ الزِّيِّ وَالْهَيْئَةِ فَإِنَّهُمْ إنْ كانوا رَأَوْهُ فإنّما رأوْهُ جَالِسًا عَلَى سَرِيرِ الملْكِ، وَعَلَيْهِ ثِيَابُ الْحَرِيرِ، وَفِي عُنُقِهِ طَوْقٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ ذَهَبٍ مرصَّعٍ بالجواهرِ، وَقَدْ نَسُوا مَا كانَ منْ أمرهم مع أخيهم يُوسُفَ لِطُولِ الْمُدَّةِ مَضَتْ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا، والأَهَمُّ مِنْ ذلك كلِّهِ أَنَّ حُصُولَ الْعِرْفَانِ وَالتَّذَكُّرِ إنَّما يكونُ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى وتقديرِهِ، فَلَعَلَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ ذَلِكَ الْعِرْفَانَ وَالتَّذْكِيرَ فِي قُلُوبِهِمْ تَحْقِيقًا لِمَا أَخْبَرَهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
أَخرجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهم وَهُمْ لَهُ مُنْكِرونَ جَاءَ بِصُواعِ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ يَشْرَبُ فِيهِ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَجَعَلَ يَنْقُرُهُ ويَطِنُّ، ويَنْقُرُهُ ويَطِنُّ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْجَامَ لِيُخْبِرُني عَنْكُمُ خَبَرًا. هَلْ كَانَ لكمْ أَخٌ مِنْ أَبيكمْ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ، وَكَانَ أَبوهُ يُحِبُّهُ دُونَكم، وَإِنَّكُمْ انْطَلَقْتُمْ، بِهِ فَأَلْقَيْتُموهُ فِي الْجُبِّ وأَخْبَرْتُمْ أَبَاكُمْ أَنَّ الذِّئْبَ أَكَلَهُ وجِئْتُمْ عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ. قَالَ: فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ ويَعْجَبُونَ إِنَّهُ هَذَا الْجَامُ لَيُخْبِرُ خَبَرَهُمْ فَمِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ هَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي الْجَلْدِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَال: قَالَ يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لإخْوَتِهِ: إِنَّ أَمْرَكُم لَيُريبُني كَأَنَّكم جَواسِيسُ، قَالُوا: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ أَبَانَا شَيْخٌ صِدِّيقٌ، وَإِنَّا قوْمٌ صِدِّيقونَ، وَإِنَّ اللهَ لَيُحْيِي بِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ الْقُلُوبَ كَمَا يُحْيِي وابِلَ السَّمَاءِ الأَرْضِ، وَيَقُولُ لَهُم ـ وَفِي يَدِهِ الإِناءُ وَهُوَ يَقْرَعُهُ الْقَرْعَةَ، كَأَنَّ هَذَا يُخْبِرُ عَنْكُم بِأَنَّكم جَواسِيسُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، تُرَى يُوسُفُ عَرَفَ إخْوَتَهُ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ مَا عَرَفَهُمْ حَتَّى تَعَرَّفُوا إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فعَرَفَهمْ وهُمْ لَهُ مُنْكِرونَ" قَالَ: لَا يَعْرِفونَهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ وَهْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا جَعَلَ يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْقُرُ الصَّاعَ ويُخْبِرُهم، قَامَ إِلَيْهِ بَعْضُ إِخْوَتِهُ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللهَ أَنْ لَا تَكْشِفَ لَنَا عَوْرَةً.
قولُهُ تعالى: {وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ} الواو: للاستِئْنافِ، و "جَاءَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ الظاهِرِ على آخِرِهِ، و "إِخْوَةُ" فاعلُهُ مرفوعٌ وهو مُضافٌ، و "يُوسُفَ" مَجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الفَتْحَةُ نِيابَةً عَنِ الكَسْرَةِ لأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الصَّرْفِ بالعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ جملَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا نَحْوِيًّا فليسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإعْرابِ.
قوْلُهُ: {فَدَخَلُوا عليْهِ} الفاءُ: حرفُ عَطْفٍ، و "دَخَلُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، والواوُ الدالَّةُ عَلَى الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ رَفْعِ فاعِلِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "جاءَ". و "عَلَيْهِ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِ "دَخَلَ" والهاءُ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ.
قولُهُ: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} الفَاءُ: للعطْفِ والترتيبِ، و "عَرَفَهُمْ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلَى "يُوسُفَ" ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، و "هم" ضميرُ الغائبينَ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ نَصْبِ مفعولِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "دخلوا".
قولُهُ: {وَهُمْ لهُ مُنْكِرونَ} الواو: واوُ الحالِ: و "هم" ضميرُ في محلِّ رفعِ مُبْتَدَأٍ. و "لَهُ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالخَبَرِ بَعدَهُ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "مُنْكِرُونَ" خَبَرٌ مَرْفوعٌ وعَلامةُ رفعِهِ الواوُ لأَنَّهُ جَمْعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عوضٌ منَ التنوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبِ حالٍ مِنْ مَفْعولِ "عَرَفَ" أي فَعَرَفَهم حالَةَ كَوْنِهم مُنْكِرينَ لَهُ.