فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 28
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} فَلَمَّا رأى العزيزُ البرهانَ ساطعًا، وهوَ أَنَّ قَمِيصَ يُوسُفَ قَدْ تَمَزَّقَ مِنَ الخَلْفِ، ولَيْسَ مِنْ أَمام، تَحَقَّقَ مِنْ صِدِقِ يُوسُفَ ـ عليهِ السلامُ، وَكَذِبِ امْرَأَتِهِ زُليخا، ولم يبقَ عندَهَ أدنى شكِّ بأنها هي التي حاولت ارتكابَ الفاحشةِ.
قَولُهُ: {قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} الكيدُ: المَكرُ، وهو التدبيرُ بليلٍ أوْ في الخفاء، وأَصلُ الكَيْدِ والمَكرِ: الأَخذُ على الأَمْنِ، أو على حينِ غِرَّةٍ منَ الآخَرِ. فإنَّها لا شكَّ قدْ أمَّنتْه على نفسِهِ وظمأنتْهُ بأنَّ هذا الأمرَ سيبقى سرًّا بينهما لا يطَّلعُ عليه أحدٌ، وذلك حين راودتْه عن نفسِهِ ليكونَ أدعى لاستجابته لها، ثم إنَّها لمَّا افتُضِحَ أمرُها اتَّهمتْهُ في شرفِه وعرضِه وأمانتِهِ، محاولةً إلصاقَ كلِّ هذه الصفاةِ القبيحةِ به تبرئةً لنفسها، وهذه الخيانةُ توشِكُ أن تكونَ كيدًا منها وتدبيرًا. فقال لها العزيز: "إنَّه من كيدِكُنَّ" أي: إِنَّ هَذَا البُهْتَانَ المُبينَ، وَمَا حَاوَلَتِ بِهِ تَلْطِيخَ سُمْعَةِ يوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، هُوَ مِنْ كَيْدِ النِّسَاءِ، لأنَّ من شأنهنَّ محاولة إغواء الرجالِ، وإيقاعهم في حبائلهنَّ ثمَّ التَنَصُّلُ من ذلكَ وادِّعاءُ العفَّةِ والزُهدِ بالرَّجُل. فلَقَدْ كانَتِ الْعَلَامَاتُ الدالَّةُ عَلَى صِدْقِ يُوسُفَ، كثيرةً منها: أَنَّه كَانَ عَبْدًا لَهُمْ وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يجرُؤَ على مولاهُ إلى هذا الحَدِّ. ومِنْها: أَنَّهُمْ شَاهَدُوهُ يَعْدُو عَدْوًا شَدِيدًا لِيَخْرُجَ من المنزِلِ وَالرَّجُلُ الطَّالِبُ لِلْمَرْأَةِ لَا يَخْرُجُ مِنَ الدَّارِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَمنها: أَنَّ امْرَأَةَ العزيزِ كانت في أَبْهى زِينَتَها، كما هي عادةُ المَرْأَةِ حين تريدُ الرجُلَ وتُهيِّأُ نفسَها لَهُ، أَمَّا يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الزِينةِ المعهودةِ في مثلِ هذه الأَحوالِ. ثمَّ إِنَّهُمْ لمْ يَلْحَظوا على يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، طيلةَ مُدَّةِ إقامتِهِ الطَّوِيلَةِ بَينهم حَالَةً تُشيرُ إلى إمْكانِ أَنْ يقْدِمَ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ. وأَخيرًا فإنَّ الْمَرْأَةَ مَا نَسَبَتْهُ إِلَى طَلَبِ الْفَاحِشَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّصْرِيحِ بَلْ ذَكَرَتْ كَلَامًا مُجْمَلًا مُبْهَمًا، وَأَمَّا هَوَ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِالْأَمْرِ وَلَوْ أَنَّهُ كَانَ مُتَّهَمًا لَمَا قَدَرَ عَلَى التَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ فَإِنَّ الْخَائِنَ خَائِفٌ. وقِيلَ: إِنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ كَانَ عَاجِزًا جِنْسِيًّا فدواعي طَلَبِ الشَّهْوَةِ متوفِّرةٌ لدَى الْمَرْأَةِ، لذلك فَفد كانَت الأولى بتوجيه الْتُهمَةِ إليهَا. عنْد ذلك اسْتَحْيَا الزَّوْجُ وَسَكَتَ لِعِلْمِهِ بِصدقِ يُوسُفَ وَكذبِ امْرأَتِهِ.
قولُهُ: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} أَيْ: إنَّ قَوْلَكِ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. فوَصَفَ كَيْدَ الْمَرْأَةِ بِالْعِظَمِ، وقالَ تعالى في سورةِ النِّساءِ: {وخُلِقَ الْإِنْسَانَ ضَعِيفًا} الآية: 28. وَقَدْ يَزِيدُ كَيْدُ الرِّجَالِ عَلَى كَيْدِ النِّسَاءِ، وتوضيحُ المَسألةِ: أَنَّ خِلْقَةَ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إلى المَلائكةِ والسَمَواتِ وَالْكَوَاكِبِ خِلْقَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَكَيْدُ النِّسْوَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَيْدِ الْبَشَرِ عَظِيمٌ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَتيْنِ، ثمَّ إِنَّ النِّسَاءَ لَهُنَّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْمَكْرِ وَالْحِيَلِ مَا لَا يَكُونُ لِلرِّجَالِ وَلِأَنَّ كَيْدَهُنَّ فِي هَذَا الْبَابِ يُورِثُ مِنَ الْعَارِ مَا لَا يُورِثُهُ كَيْدُ الرِّجَالِ.
قولُهُ تعالى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} الفاءُ: هِيَ الفَصيحَةُ؛ لأَنَّها أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تَقديره: إذا عَرَفْتَ ما شَهِدَ الشاهِدُ، وأَرَدْتَ بَيَانَ ما قالَ العَزيزُ. فَأَقولُ لَكَ: "لَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ..". لَمَّا: حرْفُ شَرْطٍ غيرُ جازِمٍ. و "رَأَى" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقدَّرِ عَلى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهورِهِ على الأَلِفِ، والفاعِلُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوازًا تَقْديرُهُ "هو" يَعودُ على العزيزِ. و "قميصَهُ" مفعولٌ به منصوبٌ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ. و "قُدَّ" فعلٌ ماضٍ مُغيَّرُ الصِيغَةِ أَوْ نَقولُ مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ أَوْ مَبْنِيٌّ للمَفعولِ، مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ على الفَتْحِ، ونائبُ فاعِلِهِ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيه جوازًا تقديرُهُ: "هو" يعودُ على القَميصِ. و "مِنْ دُبُرٍ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ ب "قُدَّ". والجملة في مَحَلِّ النَّصْبِ حالٌ من قميصه؛ لأنَّ {رَأَى} بصرية، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لَمَّا} لا محل لها من الإعراب.
قَولُهُ: {قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} قَالَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى العزيزِ، وجُمْلَةُ "قَالَ" جوابُ لَمَّا، وجُمْلَةُ "لَمَّا" في مَحَلِّ النَّصْبِ مقولٌ لِجَوابِ "إِذا" المُقَدَّرةِ، وجُمْلَةُ "إذا" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها من الإعراب. و "إنَّهُ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مشبَّه بالفعلِ للتوكيدِ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ اسمِهِ. "مِنْ كَيْدِكُنَّ" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ متعلِّقٌ بخبرهِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والنونُ علامةُ جمعِ المؤنَّسِ، وجُمْلَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قَالَ".
قولُهُ: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مشبَّه بالفعلِ للتوكيدِ، و "كَيْدَكُنَّ" اسْمُه منصوبٌ مضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه، والنونُ علامةُ جمع المؤنَّثِ. و "عَظِيمٌ" خَبَرُ "إِنَّ" مرفوعٌ، وجُمْلَةُ "إِنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ مقولُ "قَالَ".