فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 81
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ
(81)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ} الأَظْهَرُ أنَّه قولُ أَخِيهِمُ الأكبرِ (روبيل) بَعْدَ أَنْ تَفَكَّروا وتَدَبَّرِوا ووجَدوا أَنَّ الْأَصْوَبَ هُوَ الرُّجُوعُ إلى بِلادِهم، وَأَنْ يَذْكُرُوا لِأَبِيهِمْ كَيْف حَصَلَتِ هذه الْوَاقِعَةُ. والذي كان قد قالَ لهم في الآيةِ السابِقَةِ: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي}، الآيةُ: 80، وَهو الذي بَقِيَ فِي مِصْرَ وَبَعَثَ سَائِرَ إِخْوَتِهِ إِلَى أَبيهِم، وهو كلامٌ عاطِفِيٌّ نابعٌ مِنَ النَّفسِ اللوَّامَةِ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ محمَّدِ ابْنِ إِسْحَاقَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ لهم: (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَإِنِّي مَاكِثٌ لَا أَرْجِعُ حَتَّى يَأْتِيَنِي أَمْرُهُ). وقيلَ: إنَّهُ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فقد ذَكَرَ الطَبَرِيُّ أَنَّ يوسُفَ ـ عليهِ السلامُ، قالَ لَهم: إِذا أَتَيْتُمْ أَباكم فاقْرَؤوا عَلَيْهِ السَّلامَ، وقولوا لَهُ: إِنَّ مَلِكَ مِصْرَ يَدْعُو لَكَ بأَنْ لا تمُوتَ حَتَّى تَرَى وَلَدَكَ يُوسُفَ، لِيَعْلَمَ أَنَّ في أَرْضِ مِصْرَ أَيضًا صِدِّيقينَ مِثْلَهُ. والقولُ الأَوَّلُ أَظْهَرُ، واللهُ أَعلمُ.
قولُهُ: {فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ حَكَمُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ قَدْ أَجَابَ بِالْجَوَابِ الشَّافِي، فَقَالَ الَّذِي جَعَلَ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِي هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْبِضَاعَةَ فِي رَحْلِكُمْ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُ هذه الوُجوهِ: أَنَّهُمْ شَاهَدُوا أَنَّ الصُّوَاعَ كَانَ مَوْضُوعًا فِي مَوْضِعٍ مَا كَانَ يَدْخُلُهُ أَحَدٌ إِلَّا هُمْ، فَلَمَّا شَاهَدُوا أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا الصُّوَاعَ مِنْ رَحْلِهِ غَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخَذَ الصُّوَاعَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَضَعَ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِي مَنْ وَضَعَ الْبِضَاعَةَ فِي رِحَالِكُمْ) فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ هُنَاكَ لَمَّا رَجَعُوا بِالْبِضَاعَةِ إِلَيْهِمُ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ هم الذينَ وَضَعُوهَا فِي رِحَالِهِمْ، وَأَمَّا هَذَا الصُّوَاعُ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَعْتَرِفْ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَضَعَ الصُّوَاعَ فِي رَحْلِهِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ فَلِهَذَا السَّبَبِ غَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ أَنَّهُ سَرَقَ، فَشَهِدُوا بِنَاءً على هذا الظنِّ، غَيْرُ قَاطِعِينَ بِهَذَا الْأَمْرِ بِقَوْلِهِمْ: "وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ". وَثانِيها: فِي الْجَوَابِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ فِي قَوْلِ الْمَلِكِ وَأَصْحَابِهِ، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. من ذلك قَولُهُ تَعَالَى في الآية: 87، من سورةِ هودٍ ـ عليهِ السلامُ: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} أَيْ عِنْدَ نَفْسِكَ، وَقَالَ في الآية: 49 من سورة الدُخانِ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}، أَيْ عِنْدَ نَفْسِكَ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَ (لَا) فَكَذَلك هَهُنَا. وَثالِثُ هذه الوجوهِ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ ابْنَكَ ظَهَرَ عَلَيْهِ مَا يُشْبِهُ السَّرِقَةَ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّيْءِ يُسَمَّى سَرِقَةً فَإِنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ أَحَدِ الشَّبِيهَيْنِ عَلَى الشَّبِيهِ الْآخَرِ جَائِزٌ فِي الْقُرْآنِ، مِنْ ذلك قَولُهُ تَعَالَى في الآية: 40 مِنْ سُورَةِ الشُّورَى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها}. أَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْقَوْمَ مَا كَانُوا أَنْبِيَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَازَفَةِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ شَاهَدُوا شَيْئًا يُوهِمُ ذَلِكَ. والْخَامِسُ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقْرَأُ: "إِنَّ ابْنَكَ سُرِّقَ بِالتَّشْدِيدِ"، أَيْ نُسِبَ إِلَى السَّرِقَةِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَا حَاجَةَ بِهَا إِلَى التَّأْوِيلِ لِأَنَّ الْقَوْمَ نَسَبُوهُ إِلَى السَّرِقَةِ، إِلَّا أَنَّ أَمْثالَ هذِهِ القِراءاتِ لَا تَدْفَعُ السُّؤَالَ، لِأَنَّ الْإِشْكَالَ إِنَّمَا يُدْفَعُ إِذَا قُلْنَا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى بَاطِلَةٌ، وَالْقِرَاءَةُ الْحَقَّةُ هِيَ هَذِهِ. أَمَّا إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى حَقَّةٌ أيضًا كَانَ الْإِشْكَالُ بَاقِيًا سَوَاءٌ صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ أَوْ لَمْ تَصِحَّ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: "وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا" فَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ غَيْرُ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا" وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الشَّهَادَةِ مُغَايِرَةً لِلْعِلْمِ، وَلِأَنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةِ والسَّلَامُ، قَالَ: ((إِذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ، أَوْ دَعْ)) أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، ورَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، وَالْعُقَيْلِيُّ فِي كِتَابِهِ. وَذَلِكَ يَقْتَضي مَا ذَكَرْناهُ أَيضًا، وَلَيْسَتِ الشَّهَادَةُ عِبَارَةً عَنْ قَوْلِهِ أَشْهَدُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَشْهَدُ إِخْبَارٌ عَنِ الشَّهَادَةِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الشَّهَادَةِ غَيْرُ الشَّهَادَةِ ذاتِها.
قولُهُ: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} الشَّهَادَةُ هيَ الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ، وَيُسَمِّيهِ عُلَماءُ الكَلامِ بِ (كَلَامِ النَّفْسِ). والمَعْنَى: ما شَهِدْنَا عِنْدَ يُوسُفَ بِأَنَّ السَّارَقَ يُسْتَرَقُّ إِلَّا بِمَا عَلِمْنا مِنْ شَريعَتِكَ وشَريعَةِ آبائكَ، فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ ـ رضي اللهُ عنه، يَقُولُ: "مَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا" أيْ: لَمْ نَشْهَدْ أَنَّ السَّارِقَ يُؤْخَذُ بِسَرِقَتِهِ إِلَّا وَذَلِكَ الَّذِي عَلِمْنَا، قَالَ: وَكَانَ الْحُكْمُ عِنْدَ الأَنْبِيَاءِ ـ يَعْقُوبَ وَبَنِيهِ، أَنْ يُؤْخَذَ السَّارِقُ بِسَرِقَتِهِ عِنْدَما يَسْرِقُ. والأَظْهَرُ إنَّ المُرادَ هوَ: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا مِنِ اسْتِخْراجِ الصُّواعِ مِنْ وِعاءِ بِنْيامينَ. ولذلك كُرِهَ أَنْ يَكْتُبَ الرَّجُلُ شهادتَهُ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكْتُبَ الرَّجُلُ شَهَادَتَهُ، فَإِذا اسْتُشْهِدَ شَهِدَ، وَيَقْرَأُ: "وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا". وأخرجَ أيضًا عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا"، أَيْ قَدْ أُخِذَتِ السَّرِقَةُ مِنْ رَحْلِهِ، وَنَحْنُ نَنْظُرُ.
قولُهُ: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} الغَيْبُ: كُلُّ ما خَفِيَ عَنْكَ فهُوَ غيبٌ عِنْدَكَ، والغيبُ: هو الأُمورُ المَخْفِيَّةُ. و "حافظينَ" عَالِمينَ، لأَنَّ الحِفْظَ هُنا بِمَعْنَى العِلْمِ، والمَعْنَى: وما كُنَّا حافِظِينَ للغَيْبِ حَتَّى يَتَّضِحَ لَنَا فيما إِذا كانَ الأَمْرُ عَلَى ما شَاهَدْناهُ، أَوْ أَنَّهُ عَلَى خِلافِ ذَلِكَ، فَقد رَأَيْنَاهُمْ يُخْرِجُونَ الصُّوَاعَ مِنْ رَحْلِهِ، أَمَّا حَقِيقَةُ الْحَالِ فَهِيَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لَنَا لأَنَّ الْغَيْبَ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالى. وفِي قولِهِمْ هَذا أَوْجُهٌ أُخْرَى هيَ: الأَوَّلُ: لَعَلَّ الصُّوَاعَ قدْ دُسَّ فِي مَتَاعِهِ بِليْلٍ، لأَنَّ (الْغَيْبَ) منْ أَسْماءِ اللَّيْلِ بِحَسَبِ بَعْضِ لُغَاتِ العَرَبِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. والثانِي: أَنَّ المَعْنى وَمَا كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ ابْنَكَ يَسْرِقُ، وَلَوْ عَلِمْنَا ذَلِكَ مَا ذَهَبْنَا بِهِ إِلَى الْمَلِكِ، وَمَا أَعْطَيْنَاكَ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ فِي رَدِّهِ إِلَيْكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُم. وَالثَّالِثُ أَنَّ المعنى: مَا نُقِلَ عنْ يَعْقُوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّه قَالَ لَهُمْ: هَبْ أَنَّ بِنْيامِينَ سَرَقَ، فكَيْفَ عَرَفَ الْمَلِكُ أَنَّ شَرْعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقْضِي بِأَنَّ مَنْ سَرَقَ يُسْتَرَقُّ؟، فأَنْتُمْ إذًا أَعْلَمْتُمُوهُ بِذلِكَ لِغَرَضٍ في أَنْفُسِكُمْ. فقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ يَعْقُوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلَام، لِبَنِيهِ: مَا يَدْرِي هَذَا الرَّجلُ أَنَّ السَّارِق يُؤْخَذُ بِسَرِقَتِهِ إِلَّا بِقَوْلِكم، قَالُوا: "مَا شَهِدنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا" ولم نَشْهَدْ أَن السَّارِق يُؤْخَذ بِسَرِقَتِهِ إِلَّا وَذَاكَ الَّذِي عَلِمْنَا، فَعِنْدَ ذَلكَ قالوا: إِنَّا ذَكَرْنَا لَهُ هَذَا الْحُكْمَ قَبْلَ حُدُوثِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَمَا كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّنا سَنَقَعُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةَ، وفي قَوْلِهِ تعالى: "وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ" إِشَارَةٌ واضِحَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنْ قِيلَ: وَهَلْ يَجُوزُ مِنْ يَعْقُوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يَسْعَى فِي إِخْفَاءِ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى بحسَبِ هَذَا الْقَوْلِ؟. قُلْنَا: لَعَلَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ كان مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مُسْلِمًا فَلِهَذَا أَنْكَرَ ذِكْرَ هَذَا الْحُكْمِ عِنْدَ الْمَلِكِ الَّذِي ظَنَّهُ كَافِرًا. وكلامُهُمْ هَذَا يُشيرُ إلى عدَّةِ مَعَانٍ أوَّلُها: أَنَّهم قد اسْتَهانوا بالأَمْرِ، وأَنَّ الأَمْرَ لَا يَتَجاوَزُ أَنَّ ابْنَه سَرَقَ، ولم يقولوا إنَّهُ أَخوهم، بَلْ قالوا بأَنَّهُ ابْنَهُ، وهِيَ نَغْمَةٌ حَاسِدَةٌ. وثانيها: أَنَّهم لَمْ يَقولوا بأَنَّهُ اتُّهِمَ بالسَرِقَةِ، بَلْ قالوا: إِنَّهُ سَرَقَ، مُؤْمِنينَ بِذَلِكَ مُؤَكِّدينَ لَهُ، وذَلِكَ مِنْ بَقايَا حَسَدِهم لهُ وحِقْدِهم.
لقد كانَ لِإخوةِ يوسُفَ هذِهِ المَرَّةَ حُجَّةٌ عَلى مَا ادَّعوهُ، لكنَّ قَلْبَ نِبِيِّ اللهِ يَعقوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمْ يَسْكُنْ إِلَيْها، فإنَّ تعيُّنَ الجُرْمِ عَلَيهِمْ في المَرَّةِ الأُولى، جُرْمِ التَّخَلُّصِ مِنْ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَلْصَقَ التُّهْمَةَ بِهِمْ في هذه المَرَّةِ.
قولُهُ تعالى: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ} ارْجِعُوا: فعلُ أمرٍ مبنيٌّ على حذفِ النونِ من آخرِهِ لأنَّ مُضارعَهُ من الأسماء الخَمْسَةِ، والواوُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والألفُ الفارقةُ. و "إِلَى" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِ "ارْجِعُوا"، و "أَبِي" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ من الأسماء الخمسةِ، وهو مضافٌ، وضميرُ المخاطَبينَ "كُمْ" في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ بِالقولِ لِ {قَالَ}.
قولُهُ: {فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} الفاءُ: حرفُ عَطْفٍ. و "قولوا" فعلُ أمْرٍ مَبْنِيٌّ على حذفِ النونِ من آخرِهِ لأنَّ مُضارعَهُ من الأسماء الخَمْسَةِ، والواوُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والألفُ الفارقةُ. و "يَا" أداةُ نداءٍ، و "أَبَانَا" أبا: منصوبٌ بالنِداءِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الألِفُ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وهو مُضافٌ، و "نا" ضميرُ جماعةِ المُتكلِّمين المتَصلُ في محلِّ الجرِّ بالإضافة إليه، وجملةُ النِداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ ب {قولوا}. و {إِنَّ} حرفٌ ناصب ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيد، و "ابْنَكَ" اسمُهُ منصوبٌ بهِ وهو مضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. و {سَرَقَ} فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ عَلى "ابنَ"، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه في محلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا ل "إِنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بِ {قولوا}، على كونِها جَوابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} الواوُ: للعطفِ. و "ما" نافيَةٌ لا عملَ لها. و "شَهِدْنَا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" الجماعةِ وهي ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عطْفًا عَلى جُمْلَةِ "إِنَّ" عَلَى كَوْنِها جوابَ النِّداءِ. و "إِلَّا" أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ. و "بِمَا" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِ "شَهِدْنَا". و "ما" اسمٌ مَوْصولٌ أَوْ نَكِرةٌ موْصوفةٌ مبنيَّةٌ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، و {عَلِمْنَا}: مثلُ "شَهِدْنا"، والجُمْلَةُ صِلَةُ "ما"، أَوْ صِفَةٌ لَها، والعائدُ أَوِ الرابِطُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: إِلَّا بِمَا عَلِمْنَاهُ، و "عَلِم" هنا بمَعْنَى "عَرَفَ".
قولُهُ: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} الواو: حرفُ عطفٍ. و "ما" نافيةٌ لا عملَ لها. و "كُنَّا" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ مَبْنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" الجماعةِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ النَّصبِ، اسْمُهُ. و "لِلْغَيْبِ" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعلِّقٌ بِما بَعْدَهُ، و "الغيبِ" اسمٌ مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "حَافِظِينَ" خَبَرُ كانَ مَنْصوبٌ، وعلامةُ نَصبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ هي عوضٌ عن التنوين في الاسْمِ المفرد، وجُمْلَةُ "كان" مع اسمها وخبرِها معْطُوفَةٌ عَلىَ جُمْلَةِ "إِنَّ" عَلَى كَوْنِها جَوابَ النِّداءِ.
قرأَ العامَّةُ: {سَرَقَ} بالتَّخْفيفِ والبِناءِ للفاعِلِ، وقرأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وأَبُو رَزين، والكِسائيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهمُ جميعًا، في رِوَايةٍ "سُرِّقَ" بالبناءِ للمَفْعولِ مُشَدَّدًا. وقرَأَ الضَّحَّاكُ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، "سارِقٌ" فجَعَلَهُ اسْمَ فاعِلٍ.