فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 55
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} تقدَّمَ أَنَّ يوسُفَ ـ عَلَيْهِ السلامُ، عَبَّرَ رُؤْيا المَلِكِ بَينَ يَدَيْهِ حِينَ أَجْلَسَهُ المَلِكُ على سَريرِهِ وطلبَ منْهُ ذَلِكَ، حِينَها قالَ لَهُ المَلِكُ: فما تَرَى أَيُّها الصِّدِّيقُ؟ فأَجابَهُ ـ يوسُفُ: أَرَى أَنْ تَزْرَعَ في هذِهِ السِّنينِ السَّبْعِ المخْصِبَاتِ زَرْعًا كَثيرًا وتحتفِظَ بما زادَ عَنْ أَقواتِ النَّاسِ ودوابِّهم في والخَزَائنِ؛ لِيَأْتيكَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ النَّواحِي، فيَمْتارُونَ مِنْكَ في السَّبْعِ المُجْدِباتِ، فتَحفَظُ بِذَلِكَ حَيَاتَكَ ورَعِيَّتَكَ ويَجْتَمِعُ لكَ مِنَ الكُنُوزِ ما لَمْ يَجْتَمِعْ لأَحَدٍ قَبْلَكَ، وقد تَقَدَّمَ أنَّ المَلِكَ سأَل يوسُفَ عَمَّنْ َيسْتَطيعُ أَنْ يَتَوَلَّى هذا الأَمْرَ ويَقومُ بِهذِهِ المُهِمَّةِ بِأَمانَةٍ وصِدْقٍ، وعِنْدَ ذَلِكَ قالَ لَهُ يوسُفُ: "اِجْعَلْني عَلى خَزائنِ الأَرْضِ" يَعْنِي أَرْض مِصْرَ، أَيْ خزائنِ أَرْضِكَ التي تَحْتَ سُلْطانِكَ، فجُعِلَتْ "ال" التعريفِ بَدَلًا مِنَ الإضافَةِ وحُذفَ المُضافُ إِلَيْهِ، كَمَا في قولِ النَّابِغَةِ الذُبْيانيِّ:
لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِها اللهُ غيْرَهم ....... مِنَ النَّاسِ والأَحلامُ غيرُ عَوازِبِ
يُريدُ: وأَحْلامُهم. وكَمَا قالَ الشَّمَّاخُ:
فلمَّا شَراها فاضَتِ العيْنُ عَبْرةً ...... وفي الصَّدْرِ حُزَّازٌ مِنَ اللَّومِ حامِزُ
أَرادَ: في صَدْرِهِ. ومصرُ أَيضًا هي خزانةُ الأَرْضِ في رأيِ الإمامِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: مِصْرُ خِزَانَةُ الْأَرْضِ، أَمَا سَمِعْتَ إِلَى قَوْلِهِ تعالى: "قال اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ". وطَلَبَ يوسُفُ ـ عليه السلامُ، الإمارَةَ لأَنَّ الأَنْبِياءَ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، إِنَّما بُعِثوا لإقامَةِ الحَقِّ والعَدْلِ، وَوَضْعِ الأَشْياءِ مَواضِعَهَا، وقد عَلِمَ يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَنَّهُ لا أَحَدَ يستطيعُ القيامَ بذلك غيرُهُ، فَسَأَلَ ذَلِكَ إِرادةً للصَّلاحِ، ولا يتعارضُ هذا مع ما أَخْرَجَهُ البُخاري في كتابِ الإيمانِ والنُّذورِ مِنْ صَحيحِه: (6622)، لاخْتِلافِ الحالِ، وهوَ قولُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ فيما رواه مسلمٌ عنه: ((يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا)). فإنَّ عبدَ الرَّحْمَنِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، لَيْسَ نَبِيًّا مُكَلَّفًا بِمَا هوَ يُوسُفُ ـ عَلَيْه سَلامُ اللهِ، مُكَلَّفٌ بِهِ. وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ ـ رضي اللهُ عنهُ، قَال، قَالَ أَبُو مُوسَى: أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعِي رَجُلَانِ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِي وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِي، فَكِلَاهُمَا سَأَلَ الْعَمَلَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ، فَقَالَ: ((مَا تَقُولُ يَا أَبَا مُوسَى أَوْ يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ؟)). قَالَ قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ما أَطْلَعاني على ما فِي أَنْفُسِهِمَا، وَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ، قَالَ: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سِوَاكِهِ تَحْتَ شَفَتِهِ وقد قَلُصَتْ، فقالَ: ((لَنْ (أو لا) نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَغَيْرُهُ، فَيُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّمَا طَلَبَ الْوِلَايَةَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْعَدْلِ وَالْإِصْلَاحِ وَتَوْصِيلِ الْفُقَرَاءِ إِلَى حُقُوقِهِمْ فَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ الْيَوْمَ، لَوْ عَلِمَ إِنْسَانٌ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَقُومُ بِالْحَقِّ فِي الْقَضَاءِ أَوِ الْحِسْبَةِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ لَتَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَوَجَبَ أَنْ يَتَوَلَّاهَا وَيَسْأَلُ ذَلِكَ، وَيُخْبِرُ بِصِفَاتِهِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْكِفَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَمَّا لَوْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَيَصْلُحُ لَهَا وَعَلِمَ بِذَلِكَ فَالْأَوْلَى أَلَّا يَطْلُبَ، لقولِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ، المتقدِّم لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: ((لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ)) وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي سُؤَالِهَا وَالْحِرْصِ عَلَيْهَا مَعَ العلمِ بِكَثْرَةِ آفاتِها وصُعوبَةِ التَخَلُّصِ مِنْها دَليلٌ عَلَى أَنَّهُ يَطْلُبُهَا لِنَفْسِهِ وَلِأَغْرَاضِهِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا يُوشِكُ أَنْ تَغْلِبَ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَيَهْلِكُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((وُكِلَ إِلَيْهَا)). وَمَنْ أَبَاهَا لِعِلْمِهِ بِآفَاتِهَا، وَلِخَوْفِهِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حُقُوقِهَا فَرَّ مِنْهَا، ثُمَّ إِنِ ابْتُلِيَ بِهَا فَيُرْجَى لَهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ((أُعِينَ عَلَيْهَا)). ثُمَّ إنَّهُ ـ عليه السلامُ، لَمْ يَقُلْ: إِنِّي حَسِيبٌ كَرِيمٌ، وَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ، يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ)) ـ عليهِمُ السلامُ، وَلَا قَالَ: إِنِّي جَمِيلٌ مَلِيحٌ، إِنَّمَا قَالَ: "إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" فَسَأَلَهَا بِالْحِفْظِ وَالْعِلْمِ، لَا بِالنَّسَبِ وَالْجَمَالِ. وإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَأَرَادَ تَعْرِيفَ نَفْسِهِ، وَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في سورةِ النجم: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هو أعلمُ بِمَنِ اتَّقى} الآية: 32. فقد رَأَى ذَلِكَ فَرْضًا مُتَعَيِّنًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ غَيْرُهُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
فقد دَلَّتِ الْآيَةُ إذًا عَلَى جَوَازِ أَنْ يَخْطُبَ الْإِنْسَانُ عَمَلًا يَكُونُ لَهُ أَهْلًا. وَقد شَبَّهَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِمَقَامِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَقَامَ أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي تَوَلِّيهِ الْخِلَافَةِ مَعَ نَهْيِهِ الْمُسْتَشِيرَ لَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَنْ يَتَأَمَّرَ عَلَى اثْنَيْنِ. وَهُوَ تَشْبِيهٌ رَشِيقٌ، إِذْ كِلَاهُمَا صِدِّيقٌ. وكانَ المَلِكُ قدْ قالَ لَهُ قبْلَ ذلك: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} الآية: 54، السابقة، وَهَيَ صِيغَةُ تَوْلِيَةٍ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنَ الْخِصَالِ، لِأَنَّ الْمَكَانَةَ تَقْتَضِي الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ إِذْ بِالْعِلْمِ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَبِالْقُدْرَةِ يَسْتَطِيعُ فِعْلَ مَا يَبْدُو لَهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَالْأَمَانَةُ تَسْتَدْعِي الْحِكْمَةَ وَالْعَدَالَةَ، إِذْ بالحِكْمَةِ يُؤْثِرُ الْأَفْعَالَ الصَّالِحَة وَيتْرك الشَّهَوَاتِ الْبَاطِلَةَ، وَبِالْعَدَالَةِ يُوصِلُ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا. وَهَذَا التَّنْوِيهُ بِشَأْنِهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ يُرِيدُ الِاسْتِعَانَةَ بِهِ فِي أُمُورِ مَمْلَكَتِهِ وَبِأَنْ يَقْتَرِحَ عَلَيْهِ مَا يَرْجُو مِنْ خَيْرٍ، فَلِذَلِكَ أَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: "اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ". و "عَلى" هُنَا لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ وَالتَّمَكُّنُ، أَيِ اجْعَلْنِي مُتَصَرِّفًا فِي خَزَائِنِ الْأَرْضِ. وَقد اقْتِرَاحُ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَلِكَ إِعْدَادٌ لِنَفْسِهِ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ عَلَى سُنَّةِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ مِنِ ارْتِياحِ نُفُوسِهم للْعِلْمِ فِي الْمَصَالِحِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْ مَالًا لِنَفْسِهِ وَلَا عَرَضًا مِنْ مَتَاع الدُّنْيَا، وَلكِنَّهُ سَأَلَ أَنْ يُوَلِّيَهُ خَزَائِنَ الْمَمْلَكَةِ لِيَحْفَظَ الْأَمْوَالَ وَيَعْدِلَ فِي تَوْزِيعِهَا وَيَرْفُقَ بِالْأُمَّةِ فِي جَمْعِهَا وَإِبْلَاغِهَا لِمَحَالِّهَا. فقد أَخْرَجَ وَكِيعٌ فِي الْغُرَرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، قَالَ: قيلَ لِيُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَجُوعُ وخَزائنُ الأَرْضِ بِيَدِك؟! قَالَ: إِنِّي أَخَاف أَن أشْبع فأَنْسَى الجِيعان. وَأخرج ابْنُ جريرٍ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ شَيْبَةَ بْنِ نَعَامَةَ الضَّبِّيِّ ـ رَضِي اللهُ عَنهُ، فِي قَوْلِهِ: "اجْعَلنِي على خَزَائِن الأَرْضِ" يَقُول: على جَمِيعِ الطَّعَامِ إِنِّي حَفيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعْتَني عَلَيْهِمْ بِسِنين المَجاعةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "اجْعَلنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ" قَالَ: كَانَ لِفِرْعَوْنَ خَزَائِنُ كَثِيرَةٌ غَيْر الطَّعَامِ فَأَسْلَمَ سُلْطَانَهُ كُلَّهُ لَيُوسُفَ، وَجَعَلَ الْقَضَاءَ إِلَيْهِ، أَمْرُهُ وقَضاؤُهُ نَافِذٌ.
وقوْلُهُ: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} تَعْليلٌ لِطَلَبِهِ، فَقدِ اتَّصَفَ بِصِفَتَيْنِ عَزَّ توفُّرُ إِحْدَاهُمَا فِي النَّاسِ بَلْهُ كِلْتَيْهِمَا، وَهُمَا: الْحِفْظُ لِمَا يَلِيهِ، وَالْعِلْمُ بِتَدْبِيرِ مَا يَتَوَلَّاهُ، لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ أَنَّ مَكَانَتَهُ لَدَيْهِ وَائْتِمَانَهُ إِيَّاهُ قَدْ صَادَفَا مَحَلَّهُمَا وَأَهْلَهُمَا، وَأَنَّهُ حَقِيقٌ بِهِمَا لِأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِمَا يَفِي بِوَاجِبِهِمَا، وَذَلِكَ صِفَةُ الْحِفْظِ الْمُحَقِّقِ لِلِائْتِمَانِ، وَصِفَةُ الْعِلْمِ الْمُحَقِّقِ لِلْمَكَانَةِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيفٌ بِفَضْلِهِ لِيَهْتَدِيَ النَّاسُ إِلَى اتِّبَاعِهِ وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ الْحِسْبَةِ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، في رِوايَةِ عَطَاءٍ: يُريدُ: لا يَضيعُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدي شَيْءٌ، عَليمٌ بِمَا أَفْعَلُ، ويُصْلِحُ مُلْكَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَن قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنِّي حفيظٌ" قَالَ: لِمَا وَلِيتُ، "عَليمٌ" بأَمْرِهِ. وَأَخرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنِّي حفيظٌ عَليمٌ" قَالَ: حَفيظٌ لِلْحِسَابِ، عَليمٌ بِالأَلْسُنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْأَشْجَعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِثْلَهُ. قالَ ابْنُ إِسْحاقَ وأَبو إِسْحاقَ: وقالَ جَماعَةٌ: يُريدُ أَنِّي كاتِبٌ حاسِبٌ. فإنْ قيلَ: لِمَ تَرَكَ الاسْتِثْنَاءَ في هَذا بِأَنْ يُعلِّقَ الأَمْرَ عَلَى المَشِيئَةِ الإلهيَّةِ بقُولِهِ: (إِنْ شاءَ اللهُ)، والاسْتِثْناءُ في مِثْلَ هَذَا أَوْجَبُ في كَلامِ مِثْلِهِ؟. ولِمَ مَدَحَ نَفْسَهُ بالحِفْظِ والعِلْمِ؟ فالجَوابُ أَنْ يُقالَ: أَمَّا تَرْكُهُ الاسْتِثْناءَ فإنَّ ذَلِكَ كانَ مِنْهُ خَطيئَةً أَوْجَبَتْ عَلَيْهِ العقوبةَ مِنَ اللهِ، بِأَنْ أَخَّرَ تَمْليكَهُ عَنْ ذَلِكَ الوَقْتِ، ذَكَر مُقاتِلُ ابْنُ سُلَيْمَانَ: أَنَّ النَبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قالَ: ((إِنَّ يُوسُفَ قالَ: إِنّي حَفيظٌ عَليمٌ، لَوْ قالَ: إِنْ شاءَ اللهُ، لَمَلَكَ مِنْ وَقْتِهِ ذَلِكَ))، ويُمْكِنُ أَنْ يُقالَ: إِنَّهُ أَضْمَرَ نَفْسَهُ الاسْتِثْناءَ وإنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ، لكنَّ الحديثَ الشريفَ ينْفِي هَذَا. أَوْ يُقالُ: أَرادَ أَنَّ حِفْظي يَزيدُ عَلَى حِفْظِ غَيْري، وكذلِكَ عِلْمِي، وكان هذا مِمَّا لا يَدْخُلُ فِيهِ شَكٌّ حَتَّى يَحْتاجُ إِلى الاسْتِثْنَاءِ، وأَمَّا مَدْحُهُ نَفْسَهُ فإنَّ مِثْلَ هذا إِذا خَلا مِنَ البَغْيِ والاسْتِطالَةِ، وكانَ المُرادُ فيهِ الوُصولَ إِلى حَقٍّ يُقيمُهُ، وعَدْلٍ يُحْيِيهِ، وجَوْرٍ يُبْطِلُهُ، كانَ ذَلِكَ جائزًا جَميلًا. كَقولِ القائلِ: إِنِّي لَحافِظٌ كِتابَ اللهِ، عالِمٌ بِتَفْسيرِهِ، عارِفٌ بِشَرائعِ الإسْلامِ، يَقْصِدُ بِهذا القَوْلِ أَنْ يَتَعَلَمَ مِنْهُ إِنْسانٌ فَيُفيدَهُ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ، حَسُنَ ذَلِكَ مِنْهُ، ولم يَحْمِلْ ذَلِكَ عَلى تَزْكيَةِ النَّفْسِ إِذا عَرِي قولُهُ مِنَ الخُيَلاءِ والكِبْرِ. وقال الكَلْبِيُّ فيما رَواهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، في قولِهِ: إِنَّهُ حَفيظٌ أَيْ: لِتَقْديرِ الأَقْواتِ، عَليمٌ بِسِنِيِّ المَجاعَةِ، وقالَ الكَلْبِيُّ: ويُقالُ مَعْناهُ: عَلِيمٌ بِلُغاتِ النَّاسِ كُلِّهم، وذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ كانوا يَفِدونَ عَلَى المَلِكِ مِنْ كُلِّ ناحِيَةٍ ويَتَكَلَّمونَ بِلُغاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: لَمَّا انْصَرَمَتِ السَّنَةُ مِنْ يَوْمِ سَأَلَ الْإِمَارَةَ دَعَاهُ الْمَلِكُ فَتَوَجَّهَ وَرَدَّاهُ بِسَيْفِهِ، وَوَضَعَ لَهُ سَرِيرًا مِنْ ذَهَبٍ، مُكَلَّلًا بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَضَرَبَ عَلَيْهِ حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، وَكَانَ طُولَ السَّرِيرِ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ فِرَاشًا وَسِتُّونَ مِرْفَقَةً، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ، فَخَرَجَ مُتَوَّجًا، لَوْنُهُ كَالثَّلْجِ، وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ، يَرَى النَّاظِرُ وَجْهَهُ، مِنْ صَفَاءِ لَوْنِ وَجْهِهِ، فَجَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ، وَدَانَتْ لَهُ الْمُلُوكُ، وَدَخَلَ الْمَلِكُ بَيْتَهُ مَعَ نِسَائِهِ، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَ مِصْرَ، وَعَزْلَ قِطْفِيرَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ يُوسُفَ مَكَانَهُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ لِفِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ خَزَائِنُ كَثِيرَةٌ، غَيْرَ الطَّعَامِ، فَسَلَّمَ سُلْطَانَهُ كُلَّهُ إِلَيْهِ، وَهَلَكَ قِطْفِيرُ تِلْكَ اللَّيَالِي، فَزَوَّجَ الْمَلِكُ يُوسُفَ رَاعِيلَ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَ: أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِمَّا كُنْتِ تُرِيدِينَ؟! فَقَالَتْ: أَيُّهَا الصِّدِّيقُ لَا تَلُمْنِي، فَإِنِّي كُنْتُ امْرَأَةً حَسْنَاءَ نَاعِمَةً، كَمَا تَرَى، وَكَانَ صَاحِبِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، وَكُنْتَ كَمَا جَعَلَكَ اللهُ مِنَ الْحُسْنِ، فَغَلَبَتْنِي نَفْسِي. فَوَجَدَهَا يُوسُفُ عَذْرَاءَ فَأَصَابَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ رَجُلَيْنِ: إِفْرَاثِيمَ بْنَ يُوسُفَ، ومَنْشا بْنَ يُوسُفَ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ رضي اللهُ عنهُ: إِنَّمَا كَانَ تَزْوِيجُهُ زَلِيخَاءَ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ بَيْنَ دَخْلَتَيِ الْإِخْوَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ زَلِيخَاءَ مَاتَ زَوْجُهَا وَيُوسُفُ فِي السِّجْنِ، وَذَهَبَ مَالُهَا، وَعَمِيَ بَصَرُهَا، بُكَاءً عَلَى يُوسُفَ، فَصَارَتْ تَتَكَفَّفُ النَّاسَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْحَمُها، ومنْهم مَنْ لا يَرْحَمُها. وَكَانَ يُوسُفُ يَرْكَبُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً، فِي مَوْكِبٍ زُهَاءَ مِئَةِ أَلْفٍ مِنْ عُظَمَاءِ قَوْمِهِ، فَقِيلَ لَهَا: لَوْ تَعَرَّضْتِ لَهُ لَعَلَّهُ يُسْعِفُكِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ قِيلَ لَهَا: لَا تَفْعَلِي، فَرُبَّمَا ذَكَرَ بَعْضَ مَا كَانَ مِنْكِ مِنَ الْمُرَاوَدَةِ وَالسِّجْنِ فَيُسِيءُ إِلَيْكِ، فَقَالَتْ: أَنَا أَعْلَمُ بِخُلُقِ حَبِيبِي مِنْكُمْ، ثُمَّ تَرَكْتَهُ حَتَّى إِذَا رَكِبَ فِي مَوْكِبِهِ، قَامَتْ فَنَادَتْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا: سُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ الْمُلُوكَ عَبِيدًا بِمَعْصِيَتِهِمْ، وَجَعَلَ الْعَبِيدَ مُلُوكًا بِطَاعَتِهِمْ، فَقَالَ يُوسُفُ: مَا هَذِهِ؟ فَأَتَوْا بِهَا، فَقَالَتْ: أَنَا الَّتِي كُنْتُ أَخْدُمُكَ عَلَى صُدُورِ قَدَمِي، وَأُرَجِّلُ جُمَّتَكَ بِيَدِي، وَتَرَبَّيْتَ فِي بَيْتِي، وَأَكْرَمْتُ مَثْوَاكَ، لَكِنْ فَرَطَ مَا فَرَطَ مِنْ جَهْلِي وَعُتُوِّي فَذُقْتُ وَبَالَ أَمْرِي، فَذَهَبَ مَالِي، وَتَضَعْضَعَ رُكْنِي، وَطَالَ ذُلِّي، وَعَمِيَ بَصَري، وبعدَ ما كُنْتُ مَغْبُوطَةَ أَهْلِ مِصْرَ صِرْتُ مَرْحُومَتَهُمْ، أَتَكَفَّفُ النَّاسَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْحَمُنِي، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرْحَمُنِي، وَهَذَا جَزَاءُ الْمُفْسِدِينَ، فَبَكَى يُوسُفُ بُكَاءً شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: هَلْ بَقِيتِ تَجِدِينَ مِمَّا كَانَ فِي نَفْسِكِ مِنْ حُبِّكِ لِي شَيْئًا؟ فَقَالَتْ: وَاللهِ لَنَظْرَةٌ إِلَى وَجْهِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا، لَكِنْ نَاوِلْنِي صَدْرَ سَوْطِكَ، فَنَاوَلَهَا فَوَضَعَتْهُ عَلَى صَدْرِهَا، فَوَجَدَ لِلسَّوْطِ فِي يَدِهِ اضْطِرَابًا وَارْتِعَاشًا مِنْ خَفَقَانِ قَلْبِهَا، فَبَكَى ثُمَّ مَضَى إِلَى مَنْزِلِهِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا رَسُولًا: إِنْ كُنْتِ أَيِّمًا تَزَوَّجْنَاكِ، وَإِنْ كُنْتِ ذَاتَ بَعْلٍ أَغْنَيْنَاكِ، فَقَالَتْ لِلرَّسُولِ: أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ يَسْتَهْزِئَ بِي الْمَلِكُ! لَمْ يُرِدْنِي أَيَّامَ شَبَابِي وَغِنَايَ وَمَالِي وَعِزِّي أَفَيُرِيدُنِي الْيَوْمَ وَأَنَا عَجُوزٌ عَمْيَاءُ فَقِيرَةٌ؟! فَأَعْلَمَهُ الرَّسُولُ بِمَقَالَتِهَا، فَلَمَّا رَكِبَ فِي الْأُسْبُوعِ الثَّانِي تَعَرَّضَتْ لَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَلَمْ يَبْلُغْكِ الرَّسُولُ؟ فَقَالَتْ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّ نَظْرَةً وَاحِدَةً إِلَى وَجْهِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَأُصْلِحَ مِنْ شَأْنِهَا وَهُيِّئَتْ، ثُمَّ زُفَّتْ إِلَيْهِ، فَقَامَ يُوسُفُ يُصَلِّي وَيَدْعُو اللهَ، وَقَامَتْ وَرَاءَهُ، فَسَأَلَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعِيدَ إِلَيْهَا شَبَابَهَا وَجَمَالَهَا وَبَصَرَهَا، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهَا شَبَابَهَا وَجَمَالَهَا وَبَصَرَهَا، حَتَّى عَادَتْ أَحْسَنَ مَا كَانَتْ يَوْمَ رَاوَدَتْهُ، إِكْرَامًا لِيُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا عَفَّ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَأَصَابَهَا فَإِذَا هِيَ عَذْرَاءُ، فَسَأَلَهَا، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّ زَوْجِي كَانَ عِنِّينًا لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، وَكُنْتَ أَنْتَ مِنَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ بِمَا لَا يُوصَفُ، قَالَ: فَعَاشَا فِي خَفْضِ عَيْشٍ، فِي كُلِّ يَوْمٍ يُجَدِّدُ اللهُ لَهُمَا خَيْرًا، وَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدَيْنِ، إِفْرَاثِيمَ ومَنْشا.
وفيما رُوِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَلْقَى فِي قَلْبِ يُوسُفَ مِنْ مَحَبَّتِهَا أَضْعَافَ مَا كَانَ فِي قَلْبِهَا، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ لَا تُحِبِّينَنِي كَمَا كُنْتِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ؟ فَقَالَتْ لَهُ: لَمَّا ذُقْتُ مَحَبَّةَ اللهِ تَعَالَى شَغَلَنِي ذَلِكَ عَنْ كُلِّ شَيءٍ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُبِيحُ لِلرَّجُلِ الْفَاضِلِ أَنْ يَعْمَلَ لِلرَّجُلِ الْفَاجِرِ، وَالسُّلْطَانِ الْكَافِرِ، بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُفَوِّضُ إِلَيْهِ فِي فِعْلٍ لَا يُعَارِضُهُ فِيهِ، فَيُصْلِحُ مِنْهُ مَا شَاءَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَمَلُهُ بِحَسَبِ اخْتِيَارِ الْفَاجِرِ وَشَهَوَاتِهِ وَفُجُورِهِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ هَذَا كَانَ لِيُوسُفَ خَاصَّةً، وَهَذَا الْيَوْمُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إِذَا كَانَ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَإِنْ كَانَ الْمُوَلِّي ظَالِمًا فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ الْوِلَايَةِ مِنْ قِبَلِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَوَّل: جَوَازُهَا إِذَا عَمِلَ بِالْحَقِّ فِيمَا تَقَلَّدَهُ، لِأَنَّ يُوسُفَ وُلِّيَ مِنْ قِبَلِ فِرْعَوْنَ، وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي حَقِّهِ بِفِعْلِهِ لَا بِفِعْلِ غَيْرِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَوَلِّي الظَّالِمِينَ بِالْمَعُونَةِ لَهُمْ، وَتَزْكِيَتِهِمْ بِتَقَلُّدِ أَعْمَالِهِمْ، فَأَجَابَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ عَنْ وِلَايَةِ يُوسُفَ مِنْ قِبَلِ فِرْعَوْنَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِرْعَوْنَ يُوسُفَ كَانَ صَالِحًا، وَإِنَّمَا الطَّاغِي فِرْعَوْنُ مُوسَى. الثَّانِي: أَنَّهُ نَظَرَ فِي أَمْلَاكِهِ دُونَ أَعْمَالِهِ، فَزَالَتْ عَنْهُ التَّبِعَةُ فِيهِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصَحُّ مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُفَصَّلَ مَا يَتَوَلَّاهُ مِنْ جِهَةِ الظَّالِمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَوَّلًا: مَا يَجُوزُ لِأَهْلِهِ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ فِي تَنْفِيذِهِ كَالصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، فَيَجُوزُ تَوَلِّيهِ مِنْ جِهَةِ الظَّالِمِ، لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ قَدْ أَغْنَى عَنِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَجَوَازُ تَفَرُّدِ أَرْبَابِهِ بِهِ قَدْ أَغْنَى عَنِ التَّقْلِيدِ.
ثَانِيًا: مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَفَرَّدُوا بِهِ وَيَلْزَمُ الِاجْتِهَادُ فِي مَصْرِفِهِ كَأَمْوَالِ الْفَيْءِ، فَلَا يَجُوزُ تَوَلِّيهِ مِنْ جِهَةِ الظَّالِمِ، لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَجْتَهِدُ فِيمَا لَا يَسْتَحِقُّ.
ثَالِثًا: مَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ لِأَهْلِهِ، وَلِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَدْخَلٌ كَالْقَضَايَا وَالْأَحْكَامِ، فَعَقْدُ التَّقْلِيدِ مَحْلُولٌ، فَإِنْ كَانَ النَّظَرُ تَنْفِيذًا لِلْحُكْمِ بَيْنَ مُتَرَاضِيَيْنِ، وَتَوَسُّطًا بَيْنَ مَجْبُورَيْنِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ إِلْزَامُ إِجْبَارٍ لَمْ يَجُزْ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَصِفَ نَفْسَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ عِلْمٍ وَفَضْلٍ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَيْسَ هَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي عُمُومِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ فِيمَا اقْتَرَنَ بِوَصْلِهِ، أَوْ تَعَلَّقَ بِظَاهِرٍ مِنْ مَكْسَبٍ، وَمَمْنُوعٌ مِنْهُ فِيمَا سِوَاهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَزْكِيَةٍ وَمُرَاءَاةٍ، وَلَوْ مَيَّزَهُ الْفَاضِلُ عَنْهُ لَكَانَ أَلْيَقَ بِفَضْلِهِ، فَإِنَّ يُوسُفَ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ لِمَا سَبَقَ مِنْ حَالِهِ، وَلِمَا يَرْجُو مِنَ الظَفَرِ بِأَهْلِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ لِوُجُوبِ عَرْضِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لِوِلَايَةِ عَمَلٍ مِنْ أُمُورِ الْأُمَّةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ النُّصْحِ لِلْأُمَّةِ، وَخَاصَّةً إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُتَّهَمُ عَلَى إِيثَار مَنْفَعَة نَفسه عَلَى مَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ عَلِمَ يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ أَفْضَلُ النَّاسِ هُنَالِكَ لِأَنَّهُ كَانَ الْمُؤْمِنَ الْوَحِيدَ فِي ذَلِكَ الْقُطْرِ، فَهُوَ لِإِيمَانِهِ بِاللهِ يَبُثُّ أُصُولَ الْفَضَائِلِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا شَرِيعَةُ آبَائِهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَخَذَ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ جَوَازَ طَلَبِ الْقَضَاءِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَهْلٌ وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُوَلَّ ضَاعَتِ الْحُقُوقُ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: يَجِبُ عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ السَّعْيُ فِي طَلَبِ الْقَضَاءِ إِنَّ عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَلِهِ ضَاعَتِ الْحُقُوقُ أَوْ وَلِيَهُ مَنْ لَا يَحِلُّ أَنْ يُوَلَّى. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ وَلِيَهُ مَنْ لَا تَحِلُّ تَوْلِيَتُهُ وَلَا سَبِيلَ لِعَزْلِهِ إِلَّا بِطَلَبِ أَهْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَرْزُوقٍ: لَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ قُدَمَاءِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ غَيْرِ الْمَازِرِيِّ. وَقَالَ القاضي عِيَاضٌ فِي كِتَابِ الْإِمَارَةِ، مِنْ "شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ"، مَا ظَاهِرُهُ الِاتِّفَاقُ عَلَى جَوَازِ الطَّلَبِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ فِي "الْمُقَدِّمَاتِ" حُرْمَةُ الطَّلَبِ مُطْلَقًا. قَالَ ابْنُ مَرْزُوقٍ: وَإِنَّمَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا نَقَلَ الْمَازِرِيُّ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ لِلْغَزَّالِيِّ فِي "الْوَجِيز".
قولُهُ تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} قَالَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ على يُوسُفَ ـ عليه السلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها منَ الإعراب. و "اجْعَلْنِي" فعْلُ أمرٍ مجزومٌ بالطلبِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ "أنت" يَعودُ على الْمَلِكِ، وياءُ المتكَلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبِ مَفْعولٍ أَوَّل للجعلِ، والنونُ للوقايَةِ، والجُمْلةُ في مَحلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ". و "عَلَى" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالمَفْعولِ الثاني المَحْذوفِ لـِ "جعل" والتقديرُ: اجْعَلْني والِيًا عَلَى خَزائنِ الأَرْضِ، أوْ مُتَعَلِّقٌ بـِ "اجْعَلْنِي" عَلَى تَضْمينِهِ مَعْنَى وَلِّني. و "خَزَائِنِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مضافٌ، و "الْأَرْضِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} إِنِّي" حرفٌ نَاصِبٌ ناسخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبِ اسمِهِ. و "حَفِيظٌ عَلِيمٌ" خَبَرانِ مرفوعانِ لَهُ. والجملةُ تعليليَّةٌ لا محلَّ لها منَ الإعرابِ.