فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 30
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
(30)
قولُهُ ـ تَبَارَكَ وتَعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ ـ سُبْحانَهُ تَحقيقَ الهزيزِ فيما جرى بين زوجِهِ زُلَيْخا وغلامِهِ يوسُفَ الذي تبنّاهُ وربَّاه، وحكمَ أَحَدُ أَقاربِها بِما رَأَى، واسْتَبانَتْ بَراءَةُ يُوسُفَ، يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ قِصَةَ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مَعَ المَرْأَةِ قَدْ شَاعَ خَبَرُهَا فِي المَدِينَةِ، حَتَّى تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَا، فَنُقِلَ الْخَبَرُ فِي بُيُوتِ الْمُتَّصِلِينَ بِبَيْتِ الْعَزِيزِ. وَقِيلَ: إِنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ هيَ مَنْ بَاحَ بِالسِّرِّ لِبَعْضِ خَليلاتِها فَأَفْشَيْنَهُ، وكَأَنَّهَا أَرَادَتِ التَّشَاوُرَ مَعَهُنَّ، أَوْ أَرَادَتِ الِارْتِيَاحَ بِالْحَدِيثِ إِلَيْهِنَّ. فإنَّ الأمْرَ قدِ اسْتَفاضَ في بُيوتِ نِساءِ الوُزَراءِ والكُبَراءِ، فَأحْبَبْنَ أَنْ يَمْكُرْنَ بِها، لِتُرِيَهُنَّ الفتى الذي فَتَنَها جمالُهُ، وأَذَلَّها عَفافُهُ وكَمالُهُ، حَتَّى راوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ وهوَ فَتاها، ودَعَتْهُ إلى نَفْسِها فَرَدَّها وأَباها خَشْيَةً للهِ، وحِفْظًا لأَمانَةِ السَّيِّدِ المُحْسِنِ إِلَيْهِ أَنْ يَخونَهُ في أَعَزِّ شَيْءٍ لَدَيْهِ ـ عَلَّهُ بَعْدَ هذا يَصْبُو إِلَيْهِنَّ، ويَجْذِبَهُ جَمالُهُنَّ، ويكونُ لَهُ فيهِنَّ رَأْيٌ غَيْر ما رآهُ فيها، فإنَّهُ قَدْ أَلِفَ جَمالَها قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الأَشُدَّ، وكانَ يَنْظُرُ إِلَيْها نَظَرَ العَبْدِ إِلى سَيِّدَتِهِ، أَوِ الوَلَدَ إِلى والِدَتِهِ. قيلَ إنَّ هؤلاءِ النِّسْوَةَ كُنَّ خَمْسَ نِسْوَةِ وهنَّ: امْرَأَةُ حَاجِب الْمَلِكِ، وَامْرَأَةُ صَاحِبِ دَوَابِّهِ، وَامْرَأَةُ صَاحِبِ طَعَامِهِ، وَامْرَأَةُ صَاحِبِ شَرَابِهِ، وَامْرَأَةُ صَاحِبِ السِّجْنِ. وقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّهُنَّ كُنَّ أَرْبَعِينَ امْرَأَةً. فَجِئْنَ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُنَّ، وَقَدْ قَالَ فِيهِنَّ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
حَتَّى إِذَا جِئْنَهَا قَسْرًا ....................... وَمَهَّدَتْ لَهُنَّ أَنْضَادًا وَكَبَابَا
ويروى: أَنْماطًا. وَقَالَ بَعضُهم: هُنَّ مجموَعةٌ مِنْ نِساءِ أَشْرَافِ مِصْرَ. ولم يُشِرِ الكِتَابُ الكَريمُ إلى عَدَدِهِنَّ ولا إِلى صِفاتِهِنَّ، لأَنَّ العِبْرَةَ لَيْسَتْ في حاجَةٍ إِلى ذَلِكَ. والذي يَقْتَضيهِ العُرْفُ ومَجْرَى العادَةِ أَنَّهُ عَمَلُ جماعةٍ قليلةٍ مِنْ بيوتاتِ كِبارِ الدَّولةِ يُعْهَدُ منْهُنَّ في العُرْفِ الاشْتِراكُ في مثلِ هذا المَكْرِ، إذْ لا تَتطلَّعُ ـ في العادَةِ أَنظارُ نِساءِ البُيوتِ الدُنيا أَو الوُسطَى إلى الإنْكارِ عَلَى امْرأةِ العزيزِ، كَبيرِ وُزراءِ الدَّوْلَةِ، ولا إلى المُشارَكَةِ في سَلْبِ عَشيقِها مِنْها، ولا إِلى التَّمَتُّعِ بِجمالِهِ السَّاحِرِ، وحادِثٌ مثلُ هذا جَديرٌ بِأَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ بَيْتٍ إلى بَيْتٍ بِوِساطَةِ الخَدَمِ، ويَكونَ الشُّغْلَ الشاغِلَ للنِساءِ في مَجالِسِهِنَّ الخاصَّةِ وسَمَرِهِنَّ في البُيوتِ. والْمَدِينَةُ: هِيَ (مَنْفِيسُ) حَيْثُ كَانَ قَصْرُ الْعَزِيزِ، وقيلَ: هي مِصْرُ، وَقيلَ: هيَ عَيْنُ شَمْسٍ، واللهُ أعلمُ.
قولُهُ: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} فَقَالَتْ النِسَاءُ المذكُورَاتُ ـ يُنْكِرْنَ عَلَى امْرَأَةِ العَزِيزِ فِعْلَهَا، وَيَعِبْنَ عَلَيْهَا مَسْلَكَهَا فِي مُرَاوَدَةِ غُلاَمِهَا وَعَبْدِهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَدَعْوَتِهِ إِلَى نَفْسِهَا. والعزيزُ في اللغةِ: هُوَ الْمُمْتَنِعُ بِقُدْرَتِهِ عَنْ أَنْ يُضامَ فِي أَمْرِهِ، أمَّا العزيزُ هنا فهو الوزيرُ الأوَّلُ لدى للملك. وهو كذلك في كلام العرب الملك، قال أبو دؤاد الإياديُّ:
دُرَّةٌ غاصَ عَلَيْها تاجِرٌ ...................... جُلِّيَتْ عِنْدَ عَزيزٍ يَوْمَ طَلّ
أَيّْ عندَ مَلِكٍ. ومثلُ هذا الكلامِ يُقالُ للإنْكارِ والتَّعَجُّبِ مِنْ حُصُولِ مثلِ هذا الحَدَثِ لوجوهٍ عِدَّةٍ:
1 ـ إِنَّها امْرَأَةُ العَزيزِ الأَكْبَرِ في الدَّوْلَةِ، ولَهَا المَنْزِلَةُ السّامِيَةُ بَيْنَ نِساءِ العُظَمَاءِ.
2 ـ إِنَّ الذي تُراوِدُهُ عَنْ نَفْسِهِ هوَ فَتَاها ورَقيقَها.
3 ـ إِنَّها قدْ بَلَغَ بِها الأَمْرُ أَنْ جادَتْ بِعِفَّتِها فَكانَتْ هيَ المُراوِدَةُ والطَّالِبَةُ لا المُراوَدَةُ المَطْلوبَةُ.
4 ـ إِنَّها وقدْ شاعَ ذِكْرُها في المَدينَةِ لَمْ يَنْثَنِ عَزْمُها عَمَّا تُريدُ، بَلْ لا تَزَالُ مُجِدَّةً في نَيْلِ مَرْغوبِها، والحُصولِ عَلَى مَطلوبِها، كَمَا يُفيدُ ذَلِكَ قَوْلُهُنَّ "تُراوِدُ" وهوَ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى الاسْتِمرارِ في الطَّلَبِ.
قولُهُ: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} أَيْ: قدْ شَقَّ حُبَّهُ شَغافَ قَلْبِها، أَيْ: غِلافَهُ المُحيطَ بِهِ، وغاصَ في سُوَيْدائِهِ، فمَلَكَ عَلَيْها أَمْرَها، فلا تُبالي بِما يَكونُ مِنْ عاقِبَةِ تَهَتُّكِها، ولا بِما يَصيرُ إِلَيْهِ حالُها. وَالْمَعْنَى: وَصَلَ حُبُّهُ إِلَى شِغَافِهَا فَغَلَبَ عَلَيْهِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذَلِكَ دَاخِلٌ ........ دُخُولَ الشِّغَافِ تَبْتَغِيهِ الْأَصَابِعُ
يَعْنِي أَصَابِعَ المُطَبِّبينَ، يَقولُ: قدْ حالَ عَنِ البُكاءِ عَلى الدِيارِ هَمٌّ دَخَلَ في الفُؤادِ، حَتَّى أَصابَهُ مِنْهُ داءٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الشِّغَافَ دَاءٌ، وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ لِلرَّاجِزِ:
يَتْبَعُهَا وَهِيَ لَهُ شَغَافٌ
أَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبرنِي عَنْ قَوْلِهِ: "قد شغفها حبًّا" قَالَ: الشَّغَافُ فِي الْقَلْبِ فِي النِياطِ قَدِ امْتَلَأَ قَلْبُهَا مِنْ حُبِّ يُوسُفَ. قَالَ وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِك؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ نَابِغَةَ بَني ذُبْيانَ وَهُوَ يَقُولُ:
وَفِي الصَّدْرِ حُبٌّ دُونَ ذَلِك دَاخلٌ ..... وحولَ الشَّغافِ غَيَّبَتْهُ الأَضالِعُ
وَأخرج ابْنُ جَريرٍ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "قدْ شَغَفَها حُبًّا" قَالَ: قد عَلَّقَها. وَرُوِيَ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَأخرج ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الْحَسَنِ البَصريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُها: "قدْ شَغَفَهَا حُبًّا" قَالَ: بَطَنَها حُبًّا. قَالَ: وَأهل الْمَدِينَة يَقُولُونَ بَطَنَها حُبًّا.
وأخرج ابنُ أبي حاتمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ:
"قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا" حُبُّ يُوسُفَ، قالَ: الشَّغَفُ: الحُبُّ القاتِلُ، والشَّعَفُ: حُبٌّ دُونَ ذَلِكَ، وَالشِّغَافُ شِغَافُ الْقَلْبِ: حِجَابُ الْقَلْبِ.
وأَخْرَجَ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا قالَ: المَشْغوفُ: المَجْنونُ، والمَشْعوفُ: الْمُحِبُّ.
وأَخْرَجَ عَنِ السُّدِّيِّ: وَأَمَّا "شَغَفَهَا حُبًّا" قَالَ: الشَّغَافُ، جِلْدَةٌ عَلَى الْقَلْبِ، لِبَاسُ الْقَلْبِ، يَقُولُ: مَا دَخَلَ ذَلِكَ الْجِلْدَ حَتَّى أَصَابَ الْقَلْبَ.
وأَخْرَجَ سُفْيَانُ فِي قَوْلِ اللهِ: "قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا" قَالَ: الشَّغَافُ: جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ تَكُونُ عَلَى الْقَلْبِ بَيْضَاءُ، حُبُّهُ خَرَقَ ذَلِكَ الْجِلْدَ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْقَلْبِ.
وأَخْرَجَ عَنِ الْحَسَنِ ـ رضي الله عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا" قَالَ: رَأَتِ الْعِلْجَةُ خَلِيقَةً لَمْ تَرَ مِثْلَهَا حَيْثُ غُلِبَتْ عَلَى عَقْلِهَا أَبَى قَلْبُهَا أَنْ يَدَعَهَا، فَأَنْطَقَ اللهُ خَلِيقَةً مِنْ خَلْقِهِ فَقَالَ: "إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ".
وأَخْرَجَ أيضًا أنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللهِ: "قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا" قَالَ: إِنَّ الشَّغَفَ، وَالشَّعَفُ مُخْتَلِفَانِ، فَالشَّعَفُ فِي الْبُغْضِ، وَالشَّغَفُ فِي الْحُبِّ.
وأخرجَ عنْ مَحمَّدٍ العَباداني، أَنَّهُ قَالَ رَجُلٌ لِيُوسُفَ ـ يَعْنِي النَّبِيَّ
ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: إِنِّي أُحِبُّكَ. فَقَالَ لَهُ يُوسُفُ: لَا أُرِيدُ أَنْ يُحِبَّنِي أَحَدٌ غَيْرُ اللهِ، مِنْ حُبِّ أَبِي أُلْقِيتُ فِي الْجُبِّ، وَمِنْ حُبِّ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ أُلْقِيتُ فِي السِّجْنِ.
قَوْلُهُ: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أَيْ: نَعْلَمُها عِلْمًا مُتاخِمًا للمُشاهَدَةِ والعِيانِ فيما صَنَعَتْ مِنَ المُراوَدَةِ والمَحَبَّةِ المُفْرِطَةِ مُسْتَقِرةً "في ضلال" عَنْ طَريقِ الرُّشْدِ والصَّوابِ، أَوْ عَنْ سَنَنِ العَقْلِ. و "مُّبِينٍ" واضِحٍ لا يَخْفَى كَونُهُ ضَلالًا عَلى أَحَدٍ، أَوْ مُظْهرٍ لأَمْرِها بَيْنَ النَّاسِ فالجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمونِ الجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ المَسوقَتَيْنِ للَّوْمِ والتَشْنيعِ، وتَسْجيلٌ عَلَيْها بِأَنَّها في أَمْرِها عَلَى خَطَأٍ عَظيمٍ وإِنَّما لَمْ يَقُلْنَ إِنَّها لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِشْعارًا بِأَنَّ ذَلِكَ الحُكْمَ غَيْرُ صَادِرٍ عَنْهُنَّ مُجازَفَةً بَلْ عَنْ عِلْمٍ ورَأْيٍ مَعَ التَّلْويحِ بِأَنَّهُنَّ مُتَنَزِّهاتٌ عَنْ أَمْثالِ مَا هِيَ عَلَيْهِ.
أَيْ: إِنَّا لَنَعْلُمُ أَنَّها غائصَةٌ في مَهَاوِي الضَّلالَةِ البَيِّنَةِ البَعيدَةِ عَنْ طَريقِ الهُدَى والرَّشادِ، ولَمْ يَكُنْ قولُهُنَّ هَذا إِنْكارًا للمُنْكَرِ، ولا كُرْهًا للرَّذيلَةِ، ولا نَصْرًا للفَضِيلَةِ، بَلْ قُلْنَهُ مَكْرًا وحِيلَةً، لِيَصِلَ الحَديثُ إِلَيْها، وَقُلْنَ إِنَّهُ قَدْ سَلَبَ لُبَّهَا مِنَ الحُبِّ، وَإِنَهُنَّ يَرَيْنَهَا فِي ضَلاَلٍ وَاضِحٍ بَيِّنٍ فِي تَصَرُّفِهِا هَذَا.
قولُهُ تَعَالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، و "قالَ"
فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ، و "نسوة" فاعِلُهُ مرفوعٌ به، والنِّسْوَةُ: اسْمٌ مُفْرَدٌ لِجَمْعِ المَرْأَةِ، والمَشْهورُ أَنَّها جَمْعُ تَكْسيرٍ للقِلَّةِ عَلى وَزْنِ: (فِعْلَة). كالصِّبْيَةِ والغِلْمَةِ. وَالْجَمْعُ الْكَثِيرُ: نِسَاءٌ. وقالَ أَبو بِكْرِ بْنُ السَّرَّاجِ: إِنَّها اسْمُ جَمْعٍ. وتَأنيثُهُ غَيْرُ حَقيقِيٍّ، كَتَأْنيثِ "اللُّمَةِ" وهيَ اسْمٌ لِجَمَاعَةِ النِّساءِ و "الثُبَةُ" وهيَ اسْمٌ لِجَماعَةِ الرِّجالِ ولِذلِكَ لَمْ يَلْحَقْ فعلَهُ تاءُ التَأْنيثِ. وَيَجُوزُ: "وَقَالَتْ نِسْوَةٌ"، و "وَقَالَ نِسْوَةٌ"، مِثْلُ "قَالَتِ الْأَعْرَابُ" وَقَالَ الْأَعْرَابُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "فِي الْمَدِينَةِ" جارٌّ ومَجْرورٌ والظاهِرُ تَعَلُّقُهُ بِمَحْذوفِ صِفَةٍ لِ "نِسْوَةٌ"، وقيلَ متعلِّقٌ بِ "قالَ" وليسَ بِظاهرٍ.
قولُهُ: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} امْرَأَتُ: مُبْتَدَأٌ مرفوعٌ وهو مُضافٌ، و "الْعَزِيزِ" مُضافٌ إِلَيْهِ مجرورٌ. و "تُرَاوِدُ" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستتِرٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هي" يَعودُ عَلَى المَرْأَةِ، وجِيءَ بالمُضارعِ دُونَ المَاضِي تَنْبيهًا عَلى أَنَّ المُراوَدَةَ صارَتْ سَجِيَّةً لها ودَيْدَنًا، أَيْ: أَنَّها فَعَلَتْها مَعَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَلَمْ يَقُلْنَ "راوَدَتْ". و "فَتَاها" مَفْعولٌ بهِ منصوبٌ وعلامةُ نصبِهِ الفتحةُ المقدَّرةُ على آخرِهِ لِتَعَذُّر ظهورها على الألفِ، وهو مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه. ولامُ "فتى" أصلُها ياءٌ لِقَولِهم: الفِتْيانُ، والفَتَيانِ" وفي التصغير: "فُتَيٌّ"، وعَلى هَذا فَقولُهمُ "الفُتُوَّة" في المَصدرِ شاذٌّ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقول "قَالَ". و "عَنْ نَفْسِهِ" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُرَاوِدُ" والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ.
قولُه: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} قَدْ: حَرْفُ تَحقيقٍ. و "شَغَفَهَا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ، وفاعِلُهُ: ضميرٌ مُستتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ عَلى الفَتَى يوسُفُ ـ عليْهِ السَّلامُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ نصبِ مفعولِهِ. و "حُبًّا" تَمْييزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الفاعِلِ، والأَصْلُ: قَدْ شَغَفَها حُبُّهُ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ الفَتَى أَوْ مِنْ فاعِلِ "تُراوِدُ". ويَجوزُ أَنْ تَكونَ خَبَرًا ثانيًا، كما يَجُوزُ أَنْ تَكونَ مُسْتَأْنَفَةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} إِنَّا: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتأكيدِ و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبِ اسْمِهِ. و "لَنَرَاهَا" اللام: هي المُزَحْلَقَةُ للتأكيدِ، حرْفُ ابْتِداءٍ. و "نَرَى" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ المقدَّرةُ على آخرِهِ لتعذُّرِ ظهورِها على الأَلفِ. والفاعِلُ ضميرٌ مستترٌ وُجوبًا تقديرُهُ "نحن" يَعودُ عَلى النِّسْوَةِ، و "ها" ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نَصبِ مفعولِهِ. و "فِي ضَلَالٍ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نرى" وهوَ في مَحَلِّ المَفْعولِ الثاني، و "مُبِينٍ" صفةٌ للضَّلالِ مجرورةٌ وجُمْلَةُ "نَرَاهَا" في مَحَلِّ الرَّفعِ خَبَرًا ل "إنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قَالَ".
قَرَأَ العامَّةُ: "شَغَفَها" بالغَيْنِ المُعْجَمَةِ مَفْتوحَةً، وَقَرَأَ ثابتٌ البَنَانيُّ "شَغِفها" بِكَسْرِ الغَيْنِ. قِيلَ: وهِيَ لُغَةُ تَميمٍ. وَقَرَأَ أَميرُ المؤمِنينَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالبٍ، وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ، وابْنُهُ مُحَمَّدٌ، وابْنُهُ جَعْفَرٌ، والشَّعْبِيُّ، وقَتَادَةُ ـ رضي اللهُ عنهم جميعًا، بِفَتْحِ العَيْنِ المُهْمَلَةِ، ورُوِيَ عَنْ ثابتٍ البَنَانِيِّ أيضًا، وأَبي رَجاءٍ، كَسْرُ العينِ المُهْمَلَةِ أَيْضًا. واخْتَلَفَ النَّاسُ في ذَلِكَ فَقيلَ: هوَ مِنْ "شَعَفَ البَعيرَ" إذا هَنَأَهُ فَأَحْرَقَهُ بِالقَطِرانِ. قالَ الشاعر:
... كما شَعَفَ المَهْنُؤْءَةَ الرجلُ الطالي
والناسُ إنَّما يَرْوُونَهُ بالمُعْجَمَةِ ويُفَسِّرونَهُ بِأَنَّهُ أَصابَ حُبِّي شَغَافَ قلْبِها أَيْ أَحْرَقَ حِجابَهُ، وهي جُلَيْدَةٌ رَقيقَةٌ دُونَهُ، "كَما شَغَفَ"، أَيْ: كَمَا أَحْرَقَ وبالَغَ المَهْنُوءَةَ، أَيْ: المَطْلِيَّةَ بالهِنَاءِ وهوَ القَطِرانُ، ولا يُنْشِدونَهُ بالمُهْمَلَةِ. وقالَ أَبو البَقاءِ لَمَّا حَكَى هذِهِ القِراءَةَ: هو مِنْ قوْلِكَ: فُلانٌ مَشْعوفٌ بِكَذا، أَيْ: مُغْرًى بِهِ، وعَلى هذِهِ الأَقوالِ، فمَعْنَاها مُتَقارِبٌ. وفرَّقَ بَعْضُهم بَيْنَهُما فقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشَّغَف ـ يَعْنِي بالمُعْجَمَةِ، في الحُبِّ، والشَّعَفُ في البُغْضِ. وقالَ الشَّعْبِيُّ: الشَّغَفُ والمَشْغوفُ بالغَيْنِ مَنْقوطَةً في الحُبِّ، والشَّعَفُ الجُنُونُ، والمَشْعوفُ: المَجْنُونُ.