فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 24
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
(24)
قولُهُ جلَّ جلالُهُ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} الْهَمُّ بالفعلِ: الْعَزْمُ عَلَى القيامِ بِهِ وإنجازِهِ. أَيْ: همَّتْ بِمُخالَطَتِهِ، وقَصَدَتْ إليها، وعَزَمَتْ عَلَيها عَزْمًا جازِمًا، لا يَصْرفُها عَنْ ذلكَ صَارِفٌ، ولا يثنيها عنه رادعٌ. بعدَ ما فعَلَتْ ما فَعَلَتْ مِنَ تَغْلِيقِ الأَبوابِ ومُراودَتِهِ عن نفسِهِ ودعوتِهِ إلى نَفْسِها، ولعلَّها قامتْ بأفعالٍ أُخَرَ كبَسْطِ يَدِها إِلَيْهِ لِمُعانَقَتِهِ، أو غَيْرِ ذَلك ممَّا اضْطرَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، إلى الهَرَبِ باتَّجاهِ البابِ، ومحاولةِ دفعِها لإبعادِها عنه، وَقد أَكَّدَ هَمَّهَا بِ "قَدْ" وَلَامِ الْقَسَمِ لِيُفِيدَ أَنَّهَا عَزَمَتْ عَزْمًا مُحَقَّقًا. ولتأْكيدِ حُصُولِهِ مِنْها وإِصْرارِها عليْهِ بالرَّغْمِ ممَّا جاءَ في مقالَتِهِ لها وردِّهِ على طلَبِها مِنَ الزَّجْرِ.
قولُهُ: {وَهَمَّ بِهَا} أَيْ: همَّ بِدفعِها عَنْ نفسِهِ مَنْعًا لَها ممَّا تَرومُ. وقيلَ مالَ إِلَيْها بِمُقْتَضَى الطَبيعَةِ البَشَرِيَّةِ وشَهْوَةِ الشَّبابِ، وقد عُبِّرَ عَنْهُ بالهَمِّ لِمُجَرَّدِ وُقُوعِهِ مَعَ هَمِّها في الذِكرِ بِطَريقِ المُشَاكَلَةِ لا لِشَبَهِهِ بِهِ كَمَا قِيلَ، ولقد بيَّنَّا رَأْيْنا في ذلك مفصَّلًا في البابِ الخامسِ مِنْ كِتابِنَا (المرأةُ في الغزل الصوفيِّ) لدى حديثِنا عَنْ هَذا المَوْضوعِ، وسَنَعودُ إلى بَيَانِهِ هنا عِنْدَ قوْلِهِ تعالى: "لولا أَنْ رَأَى بُرهانَ ربَّه". فلم يَقلِ الحَقُّ ـ تباركَ وتعالى، (ولقد هَمَّا)، أَوْ (ولقد هَمَّ كُلٌّ مِنْهُما بالآخَرِ). كما صُدِّرَ هَمُّها بِما يُقَرِّرُ وُجودَهُ مِنَ التوكيدِ القَسَمِيِّ، وعُقِّبَ همُّه بِما يَمحوهُ بقوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "لَوْلا أَنْ رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ" أَيْ: لولا أنْ رأَى حُجَّتَهُ الباهِرَةَ الدّالَّةَ عَلَى قُبْحِ الزِّنَى وسُوءِ سَبيلِهِ.
قولُهُ: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} الرُّؤْيَةُ: هُنَا عِلْمِيَّةٌ لِأَنَّ الْبُرْهَانَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تُرَى بِالْبَصَرِ. وقد نَصَّ أَئِمَةُ الصِناعَةِ عَلى أَنَّ "لولا" هُنَا جارٍ ـ مِنْ حيْثُ المَعْنَى لا مِنْ حَيْثُ الصِيغَةُ، مَجْرى التقييدِ للحُكم المُطْلَقِ كَمَا هو في قولِهِ تعالى: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} الآية: 42، منْ سُورةِ الفُرْقَانِ، و "لولا" هي حرفُ امتناعٍ لوجودٍ، إذًا فقد امتنع عن الهمِّ بها لوجودِ البرهانِ قبلُ، فلا يَتَحَقَّقُ هُناكَ هَمٌّ أَصْلًا. وقد جُوِّزَ أَنْ يَكونَ "وَهَمَّ بِها" جَوابَ "لَولا" جَرْيًا عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيّينَ في جَوازِ التَقديمِ فالهَمُّ حِينَئِذٍ عَلى مَعْنَاهُ الحَقيقيِّ، أَيْ: لولا أَنَّهُ قد شاهَدَ بُرهانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِها كَمَا هَمَّتْ بِهِ، ولكنْ حَيْثُ انْتَفى عَدَمُ المُشاهَدَةِ بِدَليلِ اسْتِعْصامِهِ وما يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ انْتَفَى الهَمُّ رَأْسًا، فَقد قَدَّمَ الْجَوَابَ عَلَى شَرْطِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَلَمْ يَقْرِنِ الْجَوَابَ بِاللَّامِ الَّتِي يَكْثُرُ اقْتِرَانُ جَوَابِ (لَوْلا) بِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَازِمًا وَلِأَنَّهُ لَمَّا قُدِّمَ عَلَى (لَوْلا) كُرِهَ اقَترانُهُ بِاللَّامِ قَبْلَ ذِكْرِ حَرْفِ الشَّرْطِ، فَلذلك يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ" لِيَظْهَرَ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ بِجُمْلَةِ "وَهَمَّ بِها" وَاضِحًا.
وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يُخَالِطْهُ هَمٌّ بِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ أبدًا لِأَنَّ اللهَ عَصَمَهُ مِنَ الْهَمِّ بِالْمَعْصِيَةِ بِمَا أَرَاهُ مِنَ الْبُرْهَانِ فِي سَرِيرَةِ نَفْسِهِ، فَقَدْ رَأَى يُوسُفُ هَذَا الْبُرْهَانَ فِي نَفْسِهِ، فلَا صُورَةَ أَبِيهِ مُتَمَثِّلَةٌ فِي سَقْفِ الدَّارِ، وَلَا صُورَةَ سَيِّدِهِ الْعَزِيزِ فِي الْجِدَارِ، وَلَا صُورَةَ مَلَكٍ يَعِظُهُ بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي رَسَمَتْهَا أَخْيِلَةُ بَعْضِ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ اللُّغَةِ وَلَا الْعَقْلِ وَلَا الطَّبْعِ وَلَا الشَّرْعِ، وَلَمْ يُرْوَ فِي خَبَرٍ مَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الصِّحَاحِ وَلَا فِيمَا دُونَهَا. وَهذا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللُّغَةِ وَوَقَائِعِ الْقِصَّةِ، وَمُقْتَضَى مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نبيَّه يُوسُفَ ـ عليه السلامُ، فِي هَذَا السِّيَاقِ وَغَيْرِهِ مِنَ السُّورَةِ، وَلَاسِيَّمَا قَوْلُهُ المتقدِّم فِي الآية: 22، من هذه السورة: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وَمَا فَسَّرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِهِ الْإِحْسَانَ، وَقَوْلُهُ فِي تَعْلِيلِهِ: "كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ" أَيْ كَذَلِكَ فِعْلُنَا وَتَصَرُّفُنَا فِي أَمْرِهِ لِنَصْرِفَ عَنْهُ دَوَاعِيَ مَا أَرَادَتْهُ بِهِ أَخِيرًا مِنَ السُّوءِ، وَمَا رَاوَدَتْهُ عَلَيْهِ قَبْلَهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ، بِحَصَانَةٍ أَوْ عِصْمَةٍ مِنَّا تَحُولُ دُونَ تَأْثِيرِ دَوَاعِيهِمَا الطَّبِيعِيَّةِ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يُصِيبُهُ شَيْءٌ يُخْرِجُهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ شَهِدْنَا لَهُ بِأَنَّهُ مِنْهُمْ، إِلَى جَمَاعَةِ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ وَشَهِدَ هُوَ فِي رَدِّهِ عَلَيْهَا بِأَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كُنْتُ أَقْرَأُ غَرِيبَ الْقُرْآنِ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَلَمَّا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ: "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها" الْآيَةَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ تَقْدِيمِ الْجَوَابِ وَتَأْخِيرِ الشَّرْطِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَلَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا. وهذا التَّعْبيرُ هوَ مِنْ خُصوصِيَّاتِ البلاغَةِ القُرْآنِيَّةِ، والمُرادُ بِهِ بَيَانُ ما هوَ فيهِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ حالَةِ الإغْراءِ، فهوَ في رَيْعانِ الشَّبَابِ الذي تَكونُ فِيهِ قوَّةُ الشَّهْوةِ عَلَى أَشَدِّ ما تَكونُ، وقد هَمَّا في خَلْوةٍ لا يَراهُما فيها أَحَدٌ، ثمَّ إِنَّ زُلَيْخَةَ سَيِّدَةٌ حَسْنَاءُ عَلَى دَرَجَةٍ فائقةٍ مِنَ الجَمَالِ، ثُمَّ إِنَّها سَيِّدَتُهُ، وهيَ التي دَعَتْهُ إِلَى نَفْسِها، فإنَّ المَوْقِفَ غَايَةٌ في الإغْراءِ والفِتْنَةِ، ومَعَ ذَلِكَ فإنَّ يُوسُفَ ـ عَليْهِ السَّلامُ، مَلَكَ زِمامَ نَفْسِهِ وكَبَحَ دَواعيَ الفِتْنَةِ، وما ذَاكِ إلاَّ لأنَّهُ نَبِيٌّ مَعْصومٌ مِنَ الزَلَلِ واقْتِرافِ الكَبائرِ. أَمَّا البُرْهانُ الذي رَآهُ فَهُوَ ـ عَلى الأَرْجَحِ، النُبُوَّةُ، والعِصْمَةُ، والوحيُ الذي نَزَلَ عَلَيْهِ في الجُبِّ، يُشيرُ إلَيْهِ قَولُهُ تَعَالى في الآيَةِ: 15، مِنْ هَذِهِ السُّورَةُ المُبارَكَةِ: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُون}.
وقيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، فقَدْ نَقَلَ الماوَرْدِيُّ فيَ تفْسيرِهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قالَ: وحَلَّ الهِمْيَانَ ـ يَعْني السَّراويلَ، وجَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْها مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنَ المَرْأَةِ.
وأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا هَمَّتْ بِهِ تَزَيَّنَتْ، ثُمَّ اسْتَلْقَتْ عَلَى فِرَاشِهَا، وَهَمَّ بِهَا جَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا يَحُلُّ تَبَّانَهُ نُودِيَ مِنَ السَّمَاءِ (يَا ابْنَ يَعْقُوبَ، لَا تَكُنْ كَطَائِرٍ يُنْتَفُ رِيشُهُ فَيَبْقَى لَا رِيشَ لَهُ) فَلَمْ يَتَّعِظْ عَلَى النِّدَاءِ شَيْئًا، حَتَّى رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ: جِبْرِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي صُورَةِ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى أُصْبُعَيْهِ، فَفَزِعَ فَخَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَنَامِلِهِ، فَوَثَبَ إِلَى الْبَابِ فَوَجَدَهُ مُغْلَقًا، فَرَفَعَ يُوسُفُ رِجْلَهُ فَضَرَبَ بِهَا الْبَابَ الْأَدْنَى فَانْفَرَجَ لَهُ، وَاتَّبَعَتْهُ فَأَدْرَكَتْهُ، فَوَضَعَتْ يَدَيْهَا فِي قَمِيصِهِ فَشَقَّتْهُ حَتَّى بَلَغَتْ عَضَلَةَ سَاقِهِ،
فَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ.
وَأخرجَ ابْنُ جَريرٍ وَأَبُو الشَّيْخ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَمِّ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا بَلَغَ؟ قَالَ: حَلَّ الْهِمْيَانَ ـ يَعْنِي السَّرَاوِيلَ، وَجلَسَ مِنْهَا مجْلِسَ الخاتِنِ، فَصِيحَ بِهِ: يَا يُوسُفُ لَا تَكُنْ كالطَّيْرِ لَهُ رِيشٌ، فَإِذا زَنَى قَعَدَ لَيْسَ لَهُ ريشٌ.
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ أيضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا" قَالَ: طَمِعَتْ فِيهِ وطَمِعَ فِيهَا، وَكَانَ مِنَ الطَمَعِ أَنْ هَمَّ بِحَلِّ التِكَّةِ، فَقَامَتْ إِلَى صَنَمٍ مُكَلَّلٍ بالدُرِّ والياقوتِ، فِي نَاحيَةِ الْبَيْت، فَسَتَرَتْهُ بِثَوْبٍ أَبْيضَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، فَقَالَ: أَيَّ شَيْءٍ تَصْنَعينَ؟ فَقَالَتْ: اسْتَحي مِنْ إلهي أَنْ يَراني عَلى هَذِهِ الصُّورَةِ! فَقَالَ يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَسْتَحينَ مِنْ صَنَمٍ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَلَا اسْتَحي أَنَا مِنْ إِلهي الَّذِي هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ!. ثمَّ قَالَ: لَا تَنَالِينَها مِنِّي أَبَدًا. وَهُوَ الْبُرْهَانُ الَّذِي رَأَى.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَن مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَهَمَّ بهَا" قَالَ: حَلَّ سَراويلَهُ حَتَّى بَلَغَ ثُنَّتَهُ وَجَلَسَ مِنْهَا مجْلِسَ الرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ، فَمَثُلَ لَهُ يَعْقُوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ على صَدْرِهِ، فَخَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ
أَنَامِلِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه" قَالَ: رَأَى صُورَةَ أَبِيهِ يَعْقُوبَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ عَاضًّا عَلَى إبهامِهِ، فَأَدْبَرَ هَارِبًا وَقَالَ: وَحَقِّكَ يَا أَبَتِ لَا أَعُودُ أَبَدًا.
وَأَخرَجَ ابْنْ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه" قَالَ: حَلَّ السَّرَاوِيلَ وَجَلَسَ مِنْهَا مجْلِسَ الخاتِنِ، فَرَأَى صُورَةً فِيهَا وَجْهُ يَعْقُوبُ عاضًّا عَلى أَصَابِعِهِ، فَدَفَعَ صَدْرَهُ، فَخَرَجَتِ الشَّهْوَةُ مِنْ أَنَامِلِهِ، فَكُلُّ وَلَدِ يَعْقُوبَ قدْ وُلِدَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ وَلَدًا إِلَّا يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ نَقَصَ بِتِلْكَ الشَّهْوَةِ وَلَدًا وَلم يُولَدْ لَهُ غَيْرُ أَحَدَ عَشَرَ وَلَدًا.
وَأَخرجَ ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ" قَالَ: تَمَثَّلَ لَهُ يَعْقُوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فطارَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَطْرَافِ أَنَامِلِهِ، فوُلِدَ لِكُلِّ وَلَدَ يَعْقُوبَ اثْنَا عَشَرَ ذَكَرًا غَيْرَ يُوسُفَ لَم يُولَدْ لَهُ إِلَّا غُلامانِ.
وَأَخرجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَن الْحَسَنِ ـ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ" قَالَ: رَأَى يَعْقُوبَ عاضًّا على أَصَابِعِهِ يَقُولُ: يُوسُفُ! يُوسُفُ!.
وَأَخْرَجَ ابْنْ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: رَأَى آيَةً مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ حَجَزَهُ اللهُ بِهَا عَنْ مَعْصِيَتِهِ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ مَثُلَ لَهُ يَعْقُوبُ عَاضًّا عَلَى إصْبِعَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: يَا يُوسُفُ أَتَهمُّ بِعَمَلِ السُّفَهَاءِ وَأَنتَ مَكْتُوبٌ فِي الْأَنْبِيَاءِ؟. فَذَلِكَ الْبُرْهَانُ، فَانْتَزَعَ اللهُ كُلَّ شَهْوَةٍ كَانَتْ فِي مَفَاصِلِهِ.
وَأَخرجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ" قَالَ: مَثُلَ لَهُ يَعْقُوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عاضًّا عَلَى إصْبَعَيْهِ يقولُ: يُوسُفُ بْنَ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، اسْمُكَ مَكْتُوبٌ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَتَعْمَلُ عَمَلَ السُّفَهَاءِ!.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصنعانيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الْجِدَارِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْن جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الْحَسَنِ ـ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ سَقْفَ الْبَيْتِ انْفَرَجَ، فَرَأَى يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى إِصْبُعَيْهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حنبل فِي (زَوَائِدِ الزُّهْدِ)، عَنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ". قَالَ: إِنَّهُ لَمَّا هَمَّ قِيلَ لَهُ ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا يُوسُفُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا هُوَ بِصُورَةٍ فِي سَقْفِ الْبَيْتِ تَقُولُ: يَا يُوسُفُ! يَا يُوسُفُ! أَنْتَ مَكْتُوبٌ فِي الْأَنْبِيَاءِ، فَعَصَمَهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ فِي سَقْفِ الْبَيْتِ تَقُولُ: يُوسُفُ! يُوسُفُ!. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْبُرْهَانَ الَّذِي رَأَى يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ يَعْقُوبُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، نُودِيَ: يَا ابْنَ يَعْقُوبَ، لَا تَكُونَنَّ كَالطَّيْرِ لَهُ رِيشٌ، فَإِذَا زَنَى قَعَدَ لَيْسَ لَهُ رِيشٌ، فَلَمْ يَعْرِضْ لِلنِّدَاءِ وَقَعَدَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَرَأَى وَجْهَ يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى إِصْبُعِهِ، فَقَامَ مَرْعُوبًا اسْتِحْيَاءً مِنْ أَبِيهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، قَالَ: كَانَ يُولَدُ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ إِلَّا يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وُلِدَ لَهُ أَحَدَ عَشَرَ مِنْ أَجْلِ مَا خَرَجَ مِنْ شَهْوَتِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: نَظَرَ يُوسُفُ إِلَى صُورَةِ
يَعْقُوبَ عَاضًّا عَلَى إِصْبُعِهِ يَقُولُ: يَا يُوسُفُ، فَذَاكَ حِينَ كَفَّ وَقَامَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مُثِّلَ لَهُ يَعْقُوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَاسْتَحْيَا مِنْهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: "لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ"، قَالَ: رَأَى آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ فَنَهَتْهُ، مُثِّلَتْ لَهُ فِي جِدَارِ الْحَائِطِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: الْبُرْهَانُ الَّذِي رَأَى يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثَلَاثُ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} سورة الانفطار، الآيات: 10، 11، 12، وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى في سورة يونس: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} الآية: 61، وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى في سورة الرعد: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} الآية: 33.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: رَأَى فِي الْبَيْتِ فِي نَاحِيَةِ الْحَائِطِ مَكْتُوبًا: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} الآية: 32، من سورةِ الإسراءِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ـ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا خَلَا يُوسُفُ وَامْرَأَةُ الْعَزِيزِ خَرَجَتْ كَفٌّ بِلَا جَسَدٍ بَيْنَهُمَا، مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} الآية: 33، من سورة الرعد. ثُمَّ انْصَرَفَتِ الْكَفُّ، وَقَامَا مَقَامَهُمَا، ثُمَّ رَجَعَتِ الْكَفُّ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} سورة الانفطار، الآيات: 10 ـ 12، ثُمَّ انْصَرَفَتِ الْكَفُّ، وَقَامَا مَقَامَهُمَا، فَعَادَتِ الْكَفُّ الثَّالِثَةُ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} الآية: 32، من سورة: الإسراء. وَانْصَرَفْتِ الْكَفُّ، وَقَامَا مَقَامَهُمَا، فَعَادَتِ الْكَفُّ الرَّابِعَةُ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} سورة البقرة، الآية: 281، فَوَلَّى يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَارِبًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ"، قَالَ: آيَاتِ رَبِّهِ، أُرِيَ تِمْثَالَ الْمَلِكِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا دَخَلَ يُوسُفُ مَعَهَا الْبَيْتَ وَفِي الْبَيْتِ صَنَمٌ مِنْ ذَهَبٍ قَالَتْ: كَمَا أَنْتَ، حَتَّى أُغَطِّيَ الصَّنَمَ، فَإِنِّي أَسْتَحِي مِنْهُ، فَقَالَ يُوسُفُ: هَذِهِ تَسْتَحْيِي مِنَ الصَّنَمِ، أَنَا أَحَقُّ أَنْ أَسْتَحِييَ مِنَ اللهِ؟ فَكَفَّ
عَنْهَا وَتَرَكَهَا. الدُّرِّ الْمَنْثُورِ فِي التَّفْسِيرِ بِالْمَأْثُورِ.
وقد سٌقنا كلَّ هذه الروايات التي ذكرها السيوطيُّ في (الدُرِّ المنثورِ في التفسير بالمأثور) لِنؤكِّدَ صَحَّةَ ما ذكرناه آنفًا من أَنَّه ليس فيهاَ أيُّ خبرٍ مَرفوعٍ إلى سيدِنا رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلم. ثمَّ إنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مُنْقَسِمَةٌ نِسْبَتُهَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ لَمْ يَثْبُتْ نَقْلُهُ عَمَّنْ نَقَلَهُ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِي سُقُوطِهِ. وَقِسْمٌ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ مَنْ ذُكِرَ، وَمَنْ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ من الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، لِأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ، وَلَمْ يُرْفَعْ شيءٌ مِنْهُ إِلَى النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِهَذَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّجَرُّؤُ عَلَى الْقَوْلِ فِي نَبِيِّ اللهِ يُوسُفَ بِأَنَّهُ جَلَسَ بَيْنَ رِجْلَيْ كَافِرَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، يُرِيدُ أَنْ يَزْنِيَ بِهَا، اعْتِمَادًا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، ولذلكَ فإننا نذكِّرُ بالقول الأول الذي سبق أن رجَّحْناهُ لاعتماده على متين اللغةِ، ولعدم تعارضِهِ مع الكتاب الكريم والسُّنَّةِ المطهَّرةِ، وهو أنَّهُ ـ عليهِ السَّلامُ، لم يهمَّ بها مطلقًا لرُؤيتهِ البرهانَ قبل ذلك.
وقيلَ: هِيَ مِنْهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مَعْصِيَةٌ مِنْ مَعاصِي الأَنْبياءِ، فإنَّ اللهَ ابْتَلى كُلَّ نَبِيٍّ بِخَطِيئَةٍ لِيَكونَ على وَجَلٍ مِنَ اللهِ تَعالى إذا ذَكَرَها، فَيَجِدُّ في طاعَتِهِ إِشْفاقًا مِنْها ولا يَتَّكِلُ عَلَى سَعَةِ عَفْوِ اللهِ تَعَالى ورَحْمَتِهِ. أَوْ أَنَّ اللهَ تعالى قدِ ابْتَلاهم لِيُعَرِّفَهم مَوْقِعَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهم، بِصَفْحِهِ عَنْهم، وتَرْكِ عُقوبَتِهم في الآخِرَةِ على مَعْصِيَتِهم لهُ. وقيلَ: إنَّ اللهَ يَبْتَليهم بالمَعْصِيَةِ لِيَجْعَلَهم أَئِمَّةً لأَهْلِ الذُّنوبِ في رَجاءِ رَحْمَةِ اللهِ وتَرْكِ الإياسِ مِنْ عَفْوِهِ عَنْهم إذا تابوا. وقيلَ: إنَّ ذَلِكَ كلَّهُ خُرافاتٌ وأَباطيلُ تَمُجُّها الآذانُ وتَرُدُّها العُقولُ والأَذْهانُ، وَيْلٌ لِمَنْ لاكَهَا ولَفَّقَها، أَوْ سَمِعَها وصَدَّقَها، وقِيلَ: إِنَّ هَمَّهُ بِها لم يَكُنْ عَزْمًا وإرادةً، وإنَّما كانَ تَرَدُّدًا بيْنَ الفِعْلِ والتَرْكِ، ولا حَرَجَ في حَديثِ النَّفْسِ إذا لمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَزْمٌ، ولا فِعْلٌ. وأَصْلُ الهَّمِّ حَديثُ النَّفْسِ، فإذا ظَهَرَ أَصْبَحَ فعْلًا، ومِنْ ذَلِكَ قَوْلُ جَميلِ بْنِ مُعَمَّرٍ:
هَمَمْتُ بِهَمٍّ مِنْ بُثَيْنَةَ لوْ بَدَا ........ شَفَيْتُ غليلاتِ الهَوىَ مِنْ فُؤادِيا
ونُقلَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَثَعْلَبٍ ـ رضي اللهُ عنهم، أنَّ يُوسُفَ ـ عليهِ السلامُ، هَمَّ بِأَنْ يُجِيبَهَا لِمَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ ثُمَّ ارْعَوى وَانْكَفَّ عَلَى ذَلِكَ لَمَّا رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ. وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ انْصَرَفَ عَمَّا هَمَّ بِهِ بِحِفْظِ اللهِ أَوْ بِعِصْمَتِهِ، وَالْهَمُّ بِالسَّيِّئَةِ مَعَ الْكَفِّ عَنْ فِعْلِهَا لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ فَلَا يُنَافِي عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْكَبَائِرِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ رَأَى عِصْمَتَهُمْ مِنْهَا قَبْلَ النُّبُوءَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أيضًا وفيه خلافٌ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} الإشارةُ إلى الإراءَةِ المَدلولِ عليها بقولِهِ: "لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ" أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ التَبْصيرِ والتَعْريفِ عَرَّفْناهُ بُرْهانَنا فيما قَبْلُ. ويجوزُ أنْ تكونَ الإشارةُ إلى التَثْبيتِ اللازمِ لَهُ، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّثبيتِ ثَبَّتْناهُ. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْعِصْمَةِ بِالصَّرْفِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ أَسْبَابَ حُصُولِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَوْجُودَةٌ وَلَكِنَّ اللهَ صَرَفَهُمَا عَنْهُ. وَالسُّوءُ: الْقَبِيحُ، وَهُوَ خِيَانَةُ مَنِ ائْتَمَنَهُ. وَالْفَحْشَاءُ: الزِّنَى.
قولُهُ: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} المخْلَصينَ (بفتح اللامِ) أي الذين أَخْلَصَهُمْ رَبُّهُمْ وَصَفَّاهُمْ مِنَ الشَّوَائِبِ وَهم آباؤهُ قَالَ تعالى فِيهِمْ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} الآيات: 45 ـ 47، من سورة (ص). وَيُوسُفُ هُوَ الْحَلْقَةُ الرَّابِعَةُ فِي سِلْسِلَتِهِمُ الذَّهَبِيَّةِ هذِهِ، وَقد بَشَّرَهُ أَبَوهُ بِذَلِكَ عنْدَما قَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَيْهِ فقَالَ لَهُ: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} الآية: 6، من هذه السورةِ. فَالِاجْتِبَاءُ هُوَ الِاصْطِفَاءُ، وهذا تَعْلِيلٌ لِحِكْمَةِ صَرْفِهِ عَنِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ الصَّرْفَ الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ لِئَلَّا يُنْتَقَصَ اصْطَفَاءُ اللهِ إِيَّاهُ فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ عَلَى النَّفْسِ.
قولُهُ تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} الواو: استئنافيَّةٌ. واللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "قد" حَرْفُ تَحْقيقٍ. و "هَمَّتْ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، والتاء لتأنيث الفاعِلِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى زُلَيْخَا. و "بِهِ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه جوابُ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، وجُمْلَةُ القَسَمِ لا محلَّ لها أيضًا لأنَّها جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ.
قولُهُ: {وَهَمَّ بِهَا} الواوُ: للعطفِ، و "هَمَّ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتح. وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يعود على يوسف عليه السلامُ، و "بِهَا" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مَعطوفَة ٌعلى جُمْلَةِ "هَمَّتْ" المُستأنفةِ فهي مثلُها لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْراب.
قولُهُ: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} لَوْلَا: حَرْفُ امْتِناعٍ لِوُجودٍ. و "أنْ" حرْفُ نَصْبٍ مَصْدَرِيٌّ. و "رَأَى" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتح المقدَّرِ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهوره على الألِفِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوازًا تَقْديرُهُ "هو" يعودُ على يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ،، و "رَأَى" هنا بَصَرِيَّةٌ وليست علميَّةً. ومصدرُ "رأَى" رُؤْيَةٌ ورَأْيٌ. قال:
ورأْيُ عَيْنَيَّ الفَتَى أَبْاكَا ..................... يُعْطي الجَزيلَ فَعَلَيْكَ ذاكا
و "بُرْهَانَ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ وهو مضافٌ، و "رَبِّهِ" مُضافٌ إِلَيْهِ مضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ، وجُمْلَةُ "رَأَى" في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفوعٍ بالابْتِداءِ، والتقديرُ: لولا رُؤْيَتُهُ بُرْهانَ رَبِّهِ، والخَبرُ مَحْذوفٌ وُجوبًا، تقديرُهُ: مَوْجودَةٌ، وجَوابُ "لولا" محذوفٌ والتَقديرُ: لولا رُؤْيَتُهُ بِرْهانَ رَبِّهِ مَوْجودةٌ لَقَدْ هَمَّ بِها، أوْ هو مُتَقَدِّمٌ عَلَيْها وهوَ جملَةُ قوْلِهِ "وَهَمَّ بها" وذلك عِنْدَ الكوفيين الذينَ يُجيزُ تَقديمَ جَوابِ أَدَواتِ الشَّرْطِ عَلَيْها، وجُمْلَةُ "لولا" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والمَعْنَى: انْتَفَى وامْتَنَعَ همُّهُ بها لِوُجودِ رُؤْيَةِ بُرْهانِ رَبِّهِ، كما تقَدَّمَ توضيحُه في التفسيرِ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} كَذَلِكَ: الكافُ: حرف جرٍّ وتشبيهٍ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفٍ والتَقْديرُ: أَرَيْناهُ بُرْهَانَ رَبِّهِ، وفي هَذِهِ الكافِ أَوْجُهٌ أَحَدُها: أَنَّها في محلِّ نَصْبٍ، والتقديرُ: (مثلَ ذلك التثبيت ثَبَّتناه). أو (أَرَيْناهُ البراهينَ بِذلكَ) أو (جَرَتْ أفعالُنا وأَقدارُنا كَذَلكَ لِنَصْرِفَ، أو (نُراعيهِ كذلك). ويجوزُ أَنْ تَكونَ في مَحَلِّ الرفع، والتقديرُ: (الأمرُ مِثْلُ ذَلِكَ). أو (عِصْمَتُه كَذلك). أو (أَمْرُ البراهين كَذلك)، والنَّصْبُ أَحسنُ لِمُطالَبَةِ حُروفِ الجَرِّ للأَفعالِ أَوْ مَعانيها. ويجوزُ أَنَّ في الكلامِ تقديمًا وتأخيرًا، والتقديرُ: هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها كَذلِكَ. و "ذا" اسمُ إشارةٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، واللامُ للبعدِ والكافُ للخطابِ. و "لِنَصْرِفَ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ وتَعْليلٍ. و "نَصْرِفَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَنْصوبٌ بِ "أنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ لامِ "كي"، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ "نحنُ" يَعودُ عَلَى اللهِ تعالى. و "عَنْهُ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ. و "السُّوءَ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ. و "وَالْفَحْشَاءَ" حرفُ عطفٍ ومعطوفٌ عَلَى السُّوءَ، والجُمْلَةُ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ باللامِ، واللامُ: مُتَعَلِّقَةٌ بِذَلكَ المَحْذوفِ، والتَقْديرُ: أَرَيْنَاهُ كَذَلِكَ لِصَرْفِنَا عَنْهُ.
قولُهُ: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} إِنَّهُ: حرفٌ ناسخٌ ناصِبٌ مشبَّهٌ بالفِعلِ للتوكيدِ، والهاءُ ضميرٌ متصلٌ به في محلِّ نصبِ اسْمِهِ. و "مِنْ عِبَادِنَا" جارٌّ ومَجرورٌ مضافٌ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "إنَّ" المقدَّرِ، و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. و "الْمُخْلَصِينَ" صِفَةٌ لِـ "عِبَادِنَا" مجرورةٌ وعلامةُ الجرِّ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عن التنوينِ في الاسمِ المفردِ، وجُملة "إنَّ" منِ اسمها وخبرِها مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ ما قَبْلَها، فليسَ لها محلٌّ للإعراب.
قرأَ العامَّةُ: {لِنَصْرِفَ} وقرَأَ الأَعْمَشُ "ليَصْرِفَ" بِيَاءِ الغَيبَةِ، والفاعِلُ هوَ اللهُ تَعالى.
قرَأَ العامَّةُ: {المُخلَصينَ} معرفةً بِ "أل" مفتوحةَ اللامِ حيث وردت في القرآنِ الكريم عَلى أَنَّهُ اسْمُ مَفعولٍ مِنْ أَخْلَصَهُمُ اللهُ، أَيْ: اجْتَباهم واخْتَارَهم، أَوْ أَخْلَصَهم مِنْ كُلِّ سُوءٍ. وقَرَأَها ابْنُ كثيرٍ وأَبو عَمْرٍو وابنُ عامرٍ، مَكسورةَ اللامِ، على أنَّها اسمُ الفاعِلِ، والمَفْعُولُ مَحْذوفٌ تقديرُهُ: المُخلِصينَ أَنْفُسَهم أَوْ دِينَهم. وقَرَأَ الكوفِيُّونَ في سورة مريم: {إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا} الآية: 51، بِفَتْحِ اللامِ بالمَعْنَى المُتَقَدَّمِ، والباقونَ بِكَسْرِها بالمَعْنَى المُتَقَدِّمِ.