فيض العليم .... سورة يوسف، الآية: 7
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
قولُهُ ـ جَلَّ وعَلا: {لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ} لَقَدْ كَانَ شَأْنُ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَخَبَرِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ لأَبِيهِ، عِبْرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تعالى، وَعَظِيمِ حِكْمَتِهِ، وَتَوْفِيقِهِ، وَلُطْفِهِ بِمَنِ اصْطَفَى مِنْ خلقِهِ، عِظَةٌ لِلسَّائِلِينَ، وعِبْرَةٌ للمُعْتَبِرينَ، لأَنَّهُ خَبَرٌ عَجِيبٌ، يَسْتَحِقُّ أَنْ يُرْوَى. فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصريِّ ـ رَضِي الله عَنهُ، فِي قَوْلِهِ: "لقد كَانَ فِي يُوسُف وَإِخْوَته آيَات" قَالَ عِبْرَةٌ. وَالْآيَاتُ: الدَّلَائِلُ عَلَى مَا تَتَطَلَّبُ مَعْرِفَتُهُ مِنَ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ.
وَالْآيَاتُ في الأصْلِ، هِيَ عَلَامَاتٌ يَجْعَلُونَهَا فِي الطرقاتِ الْمَفَاوِزِ تَكُونُ مرتفعةً بَادِيَةً حَتَّى لَا تَغْمُرُهَا الرِّمَالُ لِتَكُونَ مُرْشِدَةً لِلسَّائِرِينَ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى حُجَجِ الصِّدْقِ، وَأَدِلَّةِ الْمَعْلُومَاتِ الدَّقِيقَةِ. وَجَمْعُ الْآيَاتِ هُنَا مُرَاعًى فِيهِ تَعَدُّدُهَا وَتَعَدُّدُ أَنْوَاعِهَا، فَفِي قِصَّةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، دَلَائِلُ عَلَى مَا لِلصَّبْرِ وَحُسْنِ الطَّوِيَّةِ مِنْ عَوَاقِبِ الْخَيْرِ وَالنَّصْرِ، ومَا لِلْحَسَدِ وَالْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ مِنَ الْخَيْبَةِ وَالخِزْيِ.
وَهذِهِ القِصَّةُ بُرْهانٌ جديدٌ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تعالى، فما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةِ الشريفةُ مَا كانَ يَعْلَمُهُ أحدٌ سوى أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَهذَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الباهراتِ. كما أَنَّ في فَصَاحَتِهَا وبَلَاغَةِ نَظْمِهَا مِنَ الْإِعْجَازِ أصدَقُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ عنْدِه اللهِ أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُعْجِزَةً لَهُ عَلَى قَوْمِهِ أَهْلِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ والبيانِ.
وَالسَّائِلُونَ: هم كلُّ مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ السُّؤَالُ عَنِ الْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ كَما قالَ تَعَالَى في سورةِ فُصِّلتْ: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ} الآية: 10. وَقِيلَ: السَّائِلونَ همُ الْيَهُودُ. وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَلَمْ يَكُنْ لِلْيَهُودِ مُخَالَطَةٌ للْمُسْلِمينَ بِمَكَّة. أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رضي اللهُ عنه، فِي قَوْلِهِ تعالى: "لقد كَانَ فِي يُوسُف وَإِخْوَته آيَات للسائلين" يَقُولُ: مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَذَا مَا قَصَّ اللهُ عَلَيْكُم وأَنْبَأَكم بِهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لقد كَانَ فِي يُوسُف وَإِخْوَته آيَات للسائلين" قَالَ: مَنْ كَانَ سَائِلًا عَن يُوسُف وَإِخْوَتِهِ فَهَذَا نَبَؤُهم. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَقَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّمَا قَصَّ اللهُ عَلى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَبَرَ يُوسُفَ وبَغْيَ إِخْوَتِهِ عَلَيْهِ وحَسَدَهم إِيَّاهُ لمَّا ذَكَرَ رُؤْيَاهُ، لِمَا رَأَى محمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ بَغْيِ قومِهِ عَلَيْهِ وحَسَدِهِم لَمَّا أَكْرَمَهُ اللهُ بِالنُبُوَّةِ، ليتأسّى به.
وَمِثْلُ هَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِلتَّشْوِيقِ، وَالْحَثِّ عَلَى تَطَلُّبِ الْخَبَرِ وَالْقِصَّةِ، ومنه قَولُ طَرَفَةَ:
سَائِلُوا عَنَّا الَّذِي يَعْرِفُنَا ...................... بِقُوَانَا يَوْمَ تَحْلَاقِ اللُّمَم
وَقَالَ السَّمَوْأَلُ:
سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمُ .......... فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ
ونُسِبَ هذا البيتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ الْحَارِثِيِّ أيضًا، وَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ:
طُلِّقْتِ إِنْ لَمْ تَسْأَلِي أَيُّ فَارِسٍ ......... حَلِيلُكِ إِذْ لَاقَى صُدَاءً وَخَثْعَمَا
وَقَالَ أَنِيفُ بْنُ زِبَّانَ النَّبْهَانِيُّ:
فَلَمَّا الْتَقَيْنَا بَيْنَ السَّيْفِ بَيْنَنَا ................ لِسَائِلَةٍ عَنَّا حَفِيٌّ سُؤَالُهَا
ولِأَنَّ النِّسَاءَ يُعْنَيْنَ أَكثرَ بِالسُّؤَالِ عَنِ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَا، فقد كَثُرَ تَوْجِيهُهُ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ إِلَى ضَمِيرِ الْأُنْثَى، وَلَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ وَكَانَتْ أَخْبَارُهُ الَّتِي يُشَوِّقُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا أَخْبَارُ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، صَرَفَ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالَ عَنِ التَّوْجِيهِ إِلَى ضَمِيرِ النِّسْوَةِ، وَوَجَّهَ إِلَى ضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ كَمَا قالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ المعارج: {سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ} وَقَالَ في أوَّلِ سُورَةِ النَّبَأِ: {عَمَّ يَتَساءَلُونَ * عنِ النَّبأِ العظيم}.
قولُهُ تعالى: {لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ} لَقَدْ: اللامُ: مُوَطِّئَةٌ لِقَسَمٍ مَحْذوفٍ. و "قد" حَرْفُ تَحْقيقٍ. و "كاَنَ" فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على الفتحِ. و "فِي يُوسُفَ" جارٌّ ومَجْرورٌ متعلِّقٌ بخَبَرٍ مُقَدَّمٍ لـ "كان" الناقصَةِ. و "وَإِخْوَتِهِ" مَعْطوفٌ عَلى "يُوسُفَ" مضافٌ. والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ. و "آيَاتٌ" اسْمُ "كان" مُؤَخَّرٌ مرفوعٌ. و "لِلسَّائِلِينَ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالاسْتِقْرارِ الذي تَعَلَّقَ بِهِ الخَبَرُ، و "السائلين" اسمٌ مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عن التنوينِ في الاسمِ المُفْرَدِ. وجُمْلَةُ "كَانَ" جَوابٌ للقَسَمِ المَحْذوفِ فلا محلَّ لها من الإعرابِ، وجُمْلة القَسَمِ مُسْتَأْنَفَةٌ فلا محلَّ لها أيضًا.
قرأَ الجُمهورُ: {آياتٌ} جمع آيةٍ، تَصرْيحًا بالمُرادِ لأنَّها كانَتْ عَلاماتٍ كَثيرةً، وَقَرَأَ ابْنُ كَثيرٍ "آيةٌ" بالإِفرادِ، والمُرادُ بِها الجِنْسُ. وزَعَمَ بعضُهم أَنَّ ثَمَّ معطوفًا مَحذوفًا تَقديرُهُ: للسائلينَ ولِغَيْرِهم، ولا حاجةَ إليه.