فيض العليم .... سورة يوسف، الآية: 1
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِين (1)
قولُهُ تعالى شأنُهُ: {الر} أَيْ: أَنَا اللهُ أَرَى، وأَسْمَعُ سُؤالَهُم إيَّاكَ يا مُحَمَّدُ عَنْ هَذِهِ القِصَّةِ، ويُقالُ: أَنَا اللهُ أَرَى صَنيعَ إِخْوَةِ يَوسُفَ، ومُعامَلَتَهم مَعَهُ، ويُقالُ: أَنَا اللهُ أَرَى ما يَرَى الخَلْقُ، وما لا يَرَوْنَ، ويُقَالُ: "الر" تَعْديدٌ للحُروفِ عَلَى سَبيلِ التَّحَدِّي للعربِ أَنْ يأتوا ولو بآيةٍ مِنْ مثلِهِ. وقد تقدَّمَ الكلامُ عن هذه الحروفِ في أَوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ وأَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ وغيرِهما بِأَوْسَعَ مِنْ هذا وأَوْفَى.
وأَخرَجَ بْنُ أبي حاتمٍ في تفسيرِهِ عن عَطَاءَ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ القاضي شَرِيْكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ النَّخَعِيُّ: لَا أَرَاهُ إِلَّا، عَنْ أَبِي الضُّحَى يَعْنِي: مُسْلِمَ بْنَ صُبَيْحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عَنْهُما، قالَ: "الر" قَالَ: أَنَا اللهُ أَرَى وَرُوِيَ، عَنِ الضَّحَّاكِ مِثْلُهُ.
وأخرجَ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: "الر" حُرُوفُ الرَّحْمَنِ مَفْرِقِهٌ، فَحَدَّثْتُ بِهِ الأَعْمَشَ فَقَالَ: عِنْدَكَ مِثْلُ هَذَا وَلا تُخْبِرْنَاهُ؟
وأخرجَ أيضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قَالَ: "الر" و "حم" و "ن" هُوَ الرَّحْمَنُ مُقَطَّعٌ. وَرُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ مِثْلُهُ.
وأخرجَ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّه قَالَ: "الر" اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ.
وأَخرجَ عنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قال: قَالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "الر" قَالَ: هَذَا فَوَاتِحُ يَفْتَتِحُ اللهُ بِهَا الْقُرْآنَ، قَالَ: قُلْتُ: أَلَمْ تَكُنْ تَقُولُ هِيَ أَسْمَاءٌ؟ قَالَ: لا.
قولُهُ: {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِين} تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الماضي البَعيدِ، ومثلُها، "ذلكَ" في أَوَّلِ سُورةِ البَقَرَةِ، مع أنَّ سردَ الأحداثِ لم يكنْ قد ثمَّ بعدُ، وفيه إشارةٌ إلى قِدَمِ هذا القرآنِ الكريمِ كونَهُ كلامَ اللهِ تعالى القديمِ الأزليِّ، والكلامُ صفةٌ قائمةٌ في المتَكلِّمِ، وهذا دحضٌ لمن قالَ بخلقِ القرآنِ وحدوثِهِ، كالمعتزلةِ، واللهُ أعلم.
والمعنى: تِلْكَ الْآيَاتُ الَّتِي سَتَتَنَزَّلُ علَيْكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ المُباركةِ هِيَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الكريمُ، أخرجه ابْنُ أَبي حاتمٍ (7/2099) عَنِ الْحَسَنِ، وَرُوِيَ عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهم، نَحْوُ ذَلِكَ. و "الْمُبِينِ" أَيِ: الْوَاضِحُ الْجَلِيُّ، الَّذِي يُفْصِحُ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمُبْهَمَةِ وَيُفَسِّرُهَا وَيُبَيِّنُهَا، وَإِنَّمَا وُصِفَ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُ مُبِينٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ وَآيَةٌ بَيِّنَةٌ لِنبيِّ مُحَمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسلامُ. وَلأَنَّهُ ـ سبحانَهُ، بَيَّنَ فِيهِ الْهُدَى وَالرُّشْدَ، وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، فقد أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصنعانيُّ، وَابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ في تفسيرِه: (7/2099) عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَوْلُهُ: "الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ" أَيْ: وَاللهُ الْمُبَيِّنُ بَرَكَتَهُ وَهُدَاهُ، ورُشْدَهُ. وَلَمَّا بُيِّنَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِيهِ كَانَ الْكِتَابُ مُبِينًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ. ولأَنَّهُ بُيِّنَتْ فِيهِ قِصَصُ الْأَوَّلِينَ وَشُرِحَتْ فِيهِ أَحْوَالُ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَوُصِفَ الْكِتَابُ فِي طَالِعَةِ سُورَة يُونُسَ ب "الحَكَيِمِ"، وَوُصِفَ هُنَا بِ "الْمُبِينِ" لِأَنَّ ذِكْرَ وَصْفِ إِبَانَتِهِ هُنَا أَنْسَبُ، إِذْ كَانَتِ الْقِصَّةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ السُّورَةُ مُفَصَّلَةً مُبَيِّنَةً لِأَهَمِّ مَا جَرَى فِي قصَّةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ومُدَّةِ إقامتِهِ بِمِصْرَ. ولَمْ تَكُنْ قِصَّتُهُ مَعْرُوفَةً لِلْعَرَبِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ إِجْمَالًا وَلَا تَفْصِيلًا، بِخِلَافِ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ: هُودٍ، وَصَالِحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَجْمَعِينَ، إِذْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً لَدَيْهِمْ إِجْمَالًا، فَلِذَلِكَ كَانَ الْقُرْآنُ مُبَيِّنًا إِيَّاهَا وَمُفَصِّلًا. وأَخرَجَ الطبريُّ عنْ خالدِ بْنِ مَعْدانَ، عَنْ معاذِ بْنِ جَبَلٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ، قولُهُ: المُبينُ للحُروفِ التي سَقَطَتْ مِنْ أَلْسُنِ الأَعاجِمِ، وهيَ سِتَةُ أَحْرُفٍ. تفسير الطبري، جامع البيانِ ط هجر: (13/6)، والحروفُ الستَّةُ هي: الطاء. والظاء. والصاد. والضاد. والعين. والحاء المهملتان، والمذكور في الكُتُبِ المُؤَلَّفَةِ في اللُّغَةِ الفارِسِيَّةِ أَنَّ الأَحْرُفَ الساقِطَةَ ثَمانِيَةٌ. وقيل: "تِلْكَ آيَاتُ الْكتابِ الْمُبينِ" يَعْنِي: هَذِه الْآيَاتُ الَّتِي أَنْزَلْتُها عَلَيْكَ يا محمَّدُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، هِيَ تِلْكَ الْآيَاتُ الَّتِي وَعَدْتُ بإنْزالِها فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَنُزُولُ هَذه السورةِ في مكَّةَ قَبْلَ أنْ يختلطَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْيَهُودِ فِي الْمَدِينَةِ المنوَّرةِ (يثرب) مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ إِعْلَامِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِعُلُومِ الْأَوَّلِينَ، وَبِذَلِكَ سَاوَى الصَّحَابَةُ عُلَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عِلْمِ تَارِيخِ الْأَدْيَانِ وَالْأَنْبِيَاءِ ـ عليهمُ السَّلامُ.
قولُهُ تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} الر: هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا اسْمٌ، فَأَلِفٌ: اسْمٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ مِثْلِ الْحَرْفِ الَّذِي فِي قَالَ. وَلَامٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْحَرْفِ الْأَخِيرِ مَنْ قَالَ. وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا أَسْمَاءٌ أَنَّ كُلًّا مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ، لِأَنَّكَ لَا تُرِيدُ أَنْ تُخْبِرَ عَنْهَا بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا يُحْكَى بِهَا أَلْفَاظُ الْحُرُوفِ الَّتِي جُعِلَتْ أَسْمَاءً لَهَا فَهِيَ كَالْأَصْوَاتِ نَحْوَ غَاقٍ فِي حِكَايَةِ صَوْتِ الْغُرَابِ.
وَفِي مَوْضِعِ "الر" ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الْجَرُّ عَلَى الْقَسَمِ، وَحَرْفُ الْقَسَمِ مَحْذُوفٌ، وَبَقِيَ عَمَلُهُ بَعْدَ الْحَذْفِ، لِأَنَّهُ مُرَادٌ فَهُوَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ كَمَا قَالُوا: (اللهِ لَتَفْعَلَنَّ) فِي لُغَةِ مَنْ جَرَّ. وَالثَّانِي أنَّ مَوْضِعَهَا النَّصْبُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْقَسَمِ كَمَا تَقُولُ: اللهِ لَأَفْعَلَنَّ، وَالنَّاصِبُ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ الْتَزَمْتُ "اللهَ" أَيِ الْيَمِينَ بِهِ. وَالثَّانِي هِيَ مَفْعُولٌ بِهَا تَقْدِيرُهُ: اتْلُ: "الر". وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أنَّ مَوْضِعَهَا رَفْعٌ بِالابْتَدَاءِ وَمَا بَعْدَهَا الْخَبَرُ. وقيلَ: هي حُروفٌ مُقَطَّعَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. و "تِلْكَ" اسْمُ إِشارةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ الظاهِرِ عَلَى الياءِ المَحْذوفَةِ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخِطابِ. و "آياتُ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفوعٌ، وهو مُضافٌ. و "الْكِتَابِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "الْمُبِينِ" صِفَةُ "الْكِتَابِ" مجرورةٌ مثلُهُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.