فيض العليم .... سورة هود، الآية: 116
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هذا تَفْرِيعًا عَلَى قولِهِ تعالى قبلَ ذَلكَ في الآيةِ: 102، مِنْ هذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ: {كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذا أخَذَ القُرى}، وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا دَعَا إِلَيْهِ الِانْتِقَالُ الِاسْتِطْرَادِيُّ فِي مَعَانٍ مُتَمَاسِكَةٍ.
وَالْمَعْنَى فَهَلَّا كَانَ فِي تِلْكَ الْأُمَمِ أَصْحَابُ بَقِيَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَنَهَوْا قَوْمَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ لَمَّا حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ. وَذَلِكَ إِرْشَادٌ إِلَى وُجُوبِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
لَقَدْ كَانَ مِنَ الوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ التِي أَهْلَكَهَا اللهُ بِظُلْمِهَا، جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أُولُو عَقْلٍ، وَرَأيٍ، وَصَلاحٍ، يَنْهَوْنَ المُفْسِدِينَ عَنِ الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ، وَيَأخُذُونَ عَلَى أَيْدِيهِمْ لِكَيْلاَ يَنْزِلَ بِهِمْ عَذَابُ اللهِ، لأَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ أَنْ لاَ يُهْلِكَ قَوْمًا إِلاَّ إِذَا عَمَّ الفَسَادُ وَالظُّلْمُ أَكْثَرَهُمْ.
فإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْأُمَمَ الْمُتَقَدِّمِينَ حَلَّ بِهِمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ بَيَّنَ أَنَّ السَّبَبَ لأنَّهم مَا كَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَقَالَ: "فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ" وَالْمَعْنَى: فَهَلَّا كَانَ؟ فقد رُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنُ أَحْمَدٍ الفَراهيديِّ قولُهُ: كُلُّ مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كَلِمَةِ لَوْلَا فَمَعْنَاهُ "هَلَّا" إِلَّا الَّتِي فِي الصَّافَّاتِ. فرَدَّ الْزَّمَخْشَرِيُّ قائلًا: مَا صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الصَّافَّاتِ: {لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ} سورةُ الْقَلَمِ، الآية: 49. وقالَ في سُورَةِ الفَتْحِ: {وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ} الْآية: 25. وقال في سورةِ الإسْراءِ: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا} الآية: 74.
و "أُولُوا بَقِيَّةٍ" أيْ: أُولُو فَضْلٍ وَخَيْرٍ، وَسُمِّيَ الْفَضْلُ وَالْجُودُ بَقِيَّةً لِأَنَّ الرَّجُلَ يَسْتَبْقِي مِمَّا يُخْرِجُهُ أَجْوَدَهُ وَأَفْضَلَهُ، فَصَارَ هَذَا اللَّفْظُ مَثَلًا فِي الْجَوْدَةِ يُقَالُ: فُلَانٌ مِنْ بَقِيَّةِ الْقَوْمِ، أَيْ مِنْ خِيَارِهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فِي الزَّوَايَا خَبَايَا، وَفِي الرِّجَالِ بَقَايَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَقِيَّةُ بِمَعْنَى الْبَقْوَى، كَالتَّقِيَّةِ بِمَعْنَى التَّقْوَى، أَيْ فَهَلَّا كَانَ مِنْهُمْ ذُو بَقَاءٍ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَصِيَانَةٍ لها مِنْ سُخْطِ اللهِ تَعالى؟. وقُرِئَ: "أُولُوا بُقْيَةٍ" بِوَزْنِ لُقْيَةٍ، مِنْ بَقَّاهُ يُبَقِّيهِ إِذَا رَاقَبَهُ وَانْتَظَرَهُ، وَالْبَقِيَّةُ الْمَرَّةُ مِنْ مَصْدَرِهِ، وَالْمَعْنَى فَلَوْلَا كَانَ مِنْهُمْ أُولُو مُرَاقَبَةٍ وَخَشْيَةٍ مِنَ انْتِقَامِ اللهِ تَعَالَى.
قولُهُ: {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} أيْ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَ هَؤُلاَءِ الأَقْوَامِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ قِلَّةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وأَكْثَرَهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ الذِينَ لاَ يُؤْخَذُ بِرَأْيهِمْ، وَلاَ تُسْمَعُ كَلِمَتُهُمْ، وَلا يُقْبَلُ أَمْرُهُمْ وَلا نَهْيُهُمْ. أَمَّا الأَكْثَرُونَ فَكَانُوا مِنَ الظَّالِمِينَ المُسْتَكْبِرِينَ المُعَانِدِينَ، فَأَصَرُّوا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَاتَّبَعُوا حَيَاةَ التَّرَفِ وَالفَسَادِ، فَحَالَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الانْتِفَاعِ بِدَعْوَةِ الحَقِّ، فَبَطَرُوا وَاسْتَكْبَرُوا، وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَقَدْ أَغْرَقُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الجَرَائِمِ التِي وَلَّدَهَا النَّعِيمُ وَالتَّرَفُ، وَاسْتَسْلَمُوا لَهَا، وَلِذَلِكَ رَجَّحُوا مَا أَتَوا بِهِ عَلى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَطَاعَةِ اللهِ فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ.
و "وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ" وَالتَرَفُ: التَّرَفُّهُ بالنِّعْمَةُ، وَصَبِيٌّ مُتْرَفٌ إِذَا كَانَ مُنَعَّمَ الْبَدَنِ، وَالْمُتْرَفُ الَّذِي أَبْطَرَتْهُ النِّعْمَةُ وَسَعَةُ الْعيشِ، وَأَرَادَ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا تَارِكِي النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرَاتِ، أَيْ لَمْ يَهْتَمُّوا بِمَا هُوَ رُكْنٌ عَظِيمٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاتَّبَعُوا طَلَبَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَاشْتَغَلُوا بِتَحْصِيلِ الرِّيَاسَاتِ. فقد أخرجَ ابْنُ جريرٍ الطبريُّ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ الرازيُّ، وَأَبُو الشَّيْخ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رضي اللهُ عنهُ، فِي الْآيَة قَالَ: أَيْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِكُمْ مَنْ يَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رضي اللهُ عنه، قال: "إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُم" يَسْتَقِلُّهُمُ اللهُ مِنْ كُلِّ قَوْمٍ. وَأَخْرَجَ ابْنْ جَريرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضيَ اللهُ عنهُ، قال: "وَاتَّبَعَ الَّذين ظلمُوا مَا أترفوا فِيهِ" فِي مُلْكِهِمْ وَتَجَبُّرِهُمْ وتَرْكِهِمُ الْحَقَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنْ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُريْجٍ ـ رضي اللهُ عنه، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، قال: "أُتْرِفوا فِيهِ" نَظَرُوا فِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رضي اللهُ عنه، قال: "وَاتَّبَعَ الَّذينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ" مِنْ دُنْياهم، وَأَنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا قدْ تَعَقَّدَتْ أَكثَرَ النَّاسِ وأَلْهَتْهُمْ عَنْ آخِرَتِهم.
قولُهُ وتعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} الفاءُ: استئنافيَّةٌ. و "لولا" حَرْفُ تَحْضِيضٍ مُضَمَّنٌ مَعْنَى النَّفْيِ، لأنَّهُ لا يُمْكِنُ تَحْضيضُهم وتَخْويفُهم بَعْدَ انْقِراضِهِم. والتَّحْضيضُ إِنَّما يَكونُ حَثًّا لفِعْلٍ لمْ يَأْتِ زَمَنُهُ، فإنْ كانَ الزَّمَنُ قدْ انْتَهى ولا يُمْكِنُ اسْتِدْراكُ الفِعْلِ فِيهِ، تكونُ "لولا" للتَّحَسُّرِ والتَأَسُّفِ. كقولِهِ تعالى في سُورةِ يُونُس: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} الآية: 98. فإنَّ "لولا" إذا دَخَلَتْ عَلَى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ، دَلَّتْ على امْتِناعٍ لِوُجودٍ، كقولِكَ: لولا أَنَّ أَبَاكَ فُلانًا لَضَرَبْتُكَ عَلَى مَا أَذْنَبْتَ. وإذا دَخَلَتْ علَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ، فهِيَ أَداةُ تَحْضيضٍ، وتَحْميسٍ، وحَثٍّ للمُخاطَبِ على فِعْلِ شيْءٍ مَّا، كقولِكَ: لولا ذاكرتَ بِجِدٍّ واجْتِهادٍ لَمَا نَجَحْتَ. ففيهِ تَحْميسٌ لَهُ عَلَى بَذْلِ مَزيدٍ مِنَ الجِدِّ، أمَّا إذا قلتَ لراسِبٍ: لولا ذاكرتَ لَمَّا رَسَبْتَ. فهذا تَوْبيخٌ وتَأْسيفٌ لَهُ عَلَى ما فاتَ، وشَحْنٌ لطاقَتِهِ لِمَا هوَ آتٍ؛ لأَنَّ الزَّمَنَ قدْ فاتَ وانْتَهى وقْتُ المُذاكَرَةِ؛ لِذَلِكَ كانتْ "لولا" هُنَا للتَقريعِ والتَّوْبيخِ. فإنَّ "لولا" في الآيةِ دَخَلَها مَعْنَى التَّفَجُّعِ عَلَيْهِم، وهوَ قريبٌ مِنْ مجازِ قولِهِ تَعالى في سورةِ يس: {يا حَسْرَةً عَلَى العِبادِ} الآية: 30. و "كَانَ" هنا فعلٌ ماضٍ تامٌّ بِمَعْنَى وَجَدَ. و "مِنَ الْقُرُونِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ "كَانَ"، وجازَ تَعَلُّقُهُ بِها لأَنَّها تامَّةٌ، إذِ المَعْنى: فهَلَّا وُجِدَ مِنَ القُرونِ، أَوْ حَدَثَ، ونَحْوُ ذلكَ، ويَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهُ حالٌ مِنْ "أُولو بَقِيَّة" لأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ لَجَازَ أَنْ يَكونَ نَعْتًا لَهُ. و "مِنْ قبلِكم" حالٌ مِنَ "القرون" و "يَنْهَوْن" حالٌ من "أُولو بَقِيَّةٍ، لِتَخَصُّصِهِ بالإِضافَةِ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ نَعْتًا ل "أُولوا بَقِيَّةٍ" وهوَ أَوْلَى. ويَضْعُفُ أَنْ تَكونَ "كانَ" هذِهِ ناقِصَةً لِبُعْدِ المَعْنَى مِنْ ذَلِكَ، وعَلَى تَقديرِهِ يَتَعَيَّنُ تَعَلُّقُ "مِنَ القُرونِ" بالمَحْذوفِ عَلَى أَنَّهُ حالٌ، لأنَّ "كانَ" الناقِصَةَ لا تَعْمَلُ عِنْدَ جُمهورِ النُحاةِ، ويكونُ "يَنْهَوْن" في مَحَلِّ نَصْبِ خَبَرِ "كان". و "مِنْ قَبْلِكُمْ" جارٌّ ومَجْرورٌ حالٌّ مِنَ "القرونِ" كما تقدَّمَ، أَوْ صِفَةٌ لها، لأنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ مُحَلًّى بِ "أل"، فهو بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ. و "أُولُو" فاعِلُ "كان" التامَّةِ، مرفوعٌ بها، وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ المقدَّرةُ على آخرهِ، وهو مضافٌ، و "بقيَّةٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثوتُ النونِ في آخرِهِ لأنَهُ من الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ. "عَنِ الْفَسَادِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعلِّقٌّ بِهِ. و "فِي الْأَرْضِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعلِّقٌّ بالفَسادِ؛ لأنَّ المَصْدَرَ المُقْتَرِنَ بِ "أل" يَعْمَلُ في المَفاعِيلِ الصَّريحَةِ، فَيَكونُ في الظَّرْفِ أَوْلَى، ويَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلى أَنَّهُ حالٌ مِنَ "الفَسادِ". والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ صِفَةً لِفاعِلِ "كَانَ".
قولُهُ: {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} إِلَّا: أَداةُ اسْتِثْناءٍ. و "قَلِيلًا" مُسْتَثْنًى مِنَ الفاعِلِ بِمُلاحَظَةِ صِفَتِهِ. والمَعْنَى: فمَا كانَ مِنَ القُرونِ الماضِيَةِ المُهْلَكَةِ بالعَذَابِ، جَمَاعَةٌ أَصْحابُ دِينٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ إِلَّا قليلًا، وهُمْ مَنْ أَنْجَيْنَاهمْ مِنَ العَذابِ، نَهَوْا عَنِ الفَسَادِ، فالمُسْتَثْنَى مِنْهُ هو القَرونُ المُهْلَكَةُ بالعَذَابِ، كَما هوَ مُقْتَضَى السِّياقِ، والمُسْتَثْنَى مَنْ أَنْجَاهُ اللهُ مِنَ العَذابِ، فاخْتَلَفَ الجِنْسُ باعْتِبارِ الوَصْفِ المَذْكورِ. و "مِمَّنْ" جارٌّ ومَجْرورٌ صِفَةٌ لـِ "قَلِيلًا". و "مِنْ" هنا اسمٌ موصولٌ للتَّبْعيضِ. وهي عند الزَّمَخْشَرِيِّ للبيانِ وليست للتبعيضِ، قالَ: حقُّها أَنْ تَكون للبيانِ لا للتَّبعيضِ؛ لأنَّ النَّجاةَ إِنَّما هيَ للناهينَ وَحْدَهُمْ، بِدَليلِ قولِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، في سورةِ الأعرافِ: {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} الآية: 165. قال السمينُ الحلبيُّ: فعَلَى الأَوَّلِ يَتَعَلَّقُ بمَحذوفٍ عَلى أَنَّها صِفَةٌ لِ "قليلًا"، وعَلَى الثاني: يَتَعَلَّقُ بِمَحْذوفٍ عَلى سَبيلِ البَيَانِ، أَيْ: أعني. و "أَنْجَيْنَا" فعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتَّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" العَظَمَةِ، و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصولِ "مَن"، والعائدُ محذوفٌ تقديرُهُ: مِمَّنْ أَنْجَيْنَاهُ. و "مِنْهُمْ" جارٌّ ومَجْرورٌ في محلِّ النصبِ على الحالِ مِنْ الضَّميرِ المَحْذوفِ.
قولُهُ: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} الواوُ: للعطفِ، اتَّبعَ: فعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ و "الذينَ" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ رفعِ فاعِلٍ، والجملةُ مَعْطوفةٌ على جملةٍ مُقَدَّرةٍ بِ: فَلَمْ يَنْهَوْا عَنِ الفسادِ، واتَّبَع الذينَ ظَلَمُوا ...، و "ظَلَمُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٍّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ والألفُ هي الفارقةُ، والجملةُ صِلَةُ المَوْصولِ "الذين". و "مَا" موصولةٌ، أَوْ مَوْصوفَةٌ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ نَصْبِ مفعولِ "اتَّبَعَ". و "أُتْرِفُوا" فِعْلٌ ماضٍ مُغيَّرُ الصِفةِ (مبنيٌّ للمجهولِ) مَبنيٍّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ رَفعِ نائبِ فاعِلِهِ والأَلِفُ هي الفارقةُ، والجملةُ صِلَةُ المَوْصولِ "ما". أَوْ صِفَةٌ لَها، والعائدُ، أَوِ الرّابِطُ الضَميرُ "فِيهِ" وهو جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أُتْرِفُوا".
قولُهُ: {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} الواوُ: للعَطْفِ، و "كانوا" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الضَّمِ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعة، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ رَفعِ اسْمِها. و "مُجْرِمِينَ" خَبَرُها منصوبٌ بها، وعلامةُ نصبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمِ، والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، والجُمْلَةُ معطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ قولِهِ: "وَاتَّبَعَ"، أي: اتَّبَعوا شَهَواتِهم وكانوا مُجْرِمينَ بِذَلِكَ؛ لأَنَّ تابِعَ الشَّهَواتِ مَغْمورٌ بالآثامِ. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ عَطْفًا على "أُتْرِفُوا" إذا جَعَلْنَا "ما" مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: اتَّبَعوا إِتْرافَهم وكونَهم مُجْرِمِين. وقالَ الزمخشريُّ صاحبُ تفسير الكشّاف: يجوزُ أَنْ يَكونَ قولُهُ: "وَكَانُوا مُجْرِمِينَ" اعْتِراضًا وحُكْمًا عَلَيْهم بأَنَّهم قومٌ مُجْرمونَ. قالَ الشَّيْخُ أبو حيّان الأندلُسيُّ: ولا يُسَمَّى هَذا اعْتِراضًا في اصْطِلاحِ النَّحو؛ لأنَّهُ آخِرُ الآيَةٍ فَلَيْسَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَحْتَاجُ أَحَدُهُما إلى الآخَرِ.
وقرَأَ العامَّةُ: {بَقِيَّةٍ} بفتحِ الباءِ وتشديدِ الياءِ، على أَنَّها صفةٌ على وزن "فَعيلة" للمُبالَغَةِ بِمَعْنَى "فاعِلٍ"، ولِذَلِكَ دَخَلَتِ التَّاءُ فيها، والمُرادُ بِها حِينَئِذٍ جُنْدُ الشَّيْءِ وخِيَارِهِ، وإنَّما قِيلَ لِجُنْدِهِ وخِيارِهِ "بَقِيَّةٍ" في قولِهم: فلانٌ بقيةُ النَّاسِ، وبقِيَّةُ الكِرامِ، لأَنَّ الرَّجُلَ يَسْتَبْقي ممَّا يُخْرِجُهُ أَجْوَدَهُ وأَفْضَلَهُ، وعَلَيْهِ حُمْلُ بَيْتُ الحَمَاسَةِ لرويشدٍ الطائيِّ:
إِنْ تُذْنِبُوا ثم تَأْتِيني بقيَّتُكم .............. فَمَا عَلّيَّ بِذَنْبٍ عِنْدَكُمْ حُوب
وقرأَ فرقةٌ "بَقِيَة" بتخفيف الياءِ وهي اسمُ فاعلٍ مِنْ بقي كشَجِيَة مِنْ شَجِي، والتقدير: أولو طائفةٍ بَقِيةٍ أي: باقية. وقرأ أبو جعفر وشيبة "بُقْية" بضمِّ الفاءِ وسكون العين. وقُرئَ "بَقْيَة" على المَرَّة من المصدر.
قرأ العامَّةُ: "اتَّبع" بهمزة وصل وتاءٍ مشددة، وباء، مفتوحتين، فعلًا ماضيًا مبنيًّا للفاعل، وفيه وجهان، أحدهما: أنه معطوفٌ على مضمر، والثاني: أن الواوَ للحال لا للعطف. وقرأ أبو عمرو في روايةِ الجعفي وجعفر "وأُتبع" بضم همزة القطعِ وسكونِ التاء وكسر الباء مبنياً للمفعول، ولا بد حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف، أي: أُتْبِعوا جزاء ما أُتْرفوا فيه.