أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(16)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} وَهَؤُلاَءِ الذِينَ لاَ هَمَّ لَهُمْ إِلاَّ الدُّنْيا، وَزِينَتُهَا، وَزُخْرُفُهَا، لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارَ، بِسَبَبِ هذِهِ الأَعْمالِ التي أفسَدَها الرياءُ؛ لأنَّ الجزاءَ فِيهَا مُتَرَتِّبٌ عَلَى الأَعْمَالِ فِي الدُّنْيا، وَهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا فِي دُنْيَاهُمْ لآخِرَتِهِمْ شَيئاً يَنْتَفِعُون بِهِ.
قولُه: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} حَبِطَ: بَطَلَ واضْمَحَلَّ ما عَمِلوهُ في حياتهم الدنيا مِمَّا يَكيدونَ بِهِ الحَقَّ وأَهْلَهُ من سوء وما يحيكونه من مؤامرات ودَسائس، وما عَمِلوهُ مِنْ أَعْمالِ الخَيْرِ التي لا أَساسَ لَها، ولا وُجودَ لِشَرْطِها، وهوُ الإيمانُ باللهِ تعالى وإخلاصُ العملِ لوجهه الكريم.
أخرج أَبُو الشَّيْخ عَن السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فِي قَوْلِهِ: "وحبط مَا صَنَعُوا فِيهَا" قَالَ: حَبِطَ مَا علمُوا مِنْ خَيْرٍ وبَطَلَ فِي الْآخِرَة لَيْسَ لَهُم فِيهَا جَزَاء.
قولُهُ تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} أُولَئِكَ الَّذِينَ: مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، و "لَيْسَ" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ و "لَهُمْ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ لـِ "لَيْسَ"، و "فِي الْآخِرَةِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بالاسْتِقْرارِ الذي تَعَلَّقَ بِهِ الجارُّ قبلَهُ، و "إِلَّا" أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ، و "النَّارُ" اسْمُ "لَيْسَ" المُؤَخَّرُ، والتَقديرُ: لَيْسَ كائنًا لهم في الآخرةِ إلاَّ النارُ، وجملةُ "لَيْسَ" صَلَةُ المَوْصولِ.
قولُه: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} وَحَبِطَ: فِعْلٌ ماضٍ والواوُ للعطف، و "مَا" مَوْصولَةٌ أَوْ نَكِرةٌ مَوْصوفَةٌ في مَحَلِّ رَفْع فاعِلِه، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ على جُمْلَةِ "لَيْسَ"، ويجوز أَنْ تَكونَ "ما" مَصْدَرِيَّةً، أي: وحَبِطَ صُنْعُهم. و "صَنَعُوا" فعلٌ ماضٍ وواوُ الجماعةِ فاعلُهُ، والألفُ الفارقةُ، و "فِيهَا" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والضَميرُ عَلى هذا يَعودُ على الآخِرَةِ، أيْ: وَظَهَرَ حُبُوطُ ما صَنَعوا في الآخِرَةِ. ويَجوزُ أَنْ يَتَعلَّقَ بِ "صنعوا" فالضميرُ على هذا يَعودُ على الحياةِ الدُنْيا كما عادَ عَلَيْها في قولِهِ: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}. من الآية التي قبلها، وهذه الجملةُ صلةُ "ما" إذا اعتبرناها موصولةً، أوْ صِفَةٌ لَها إذا اعتبرناها نكرةً موصوفة، والعائدُ، أَوِ الرابِطُ مَحْذوفٌ، تَقْديرُهُ: مَا صَنَعوهُ فِيها.
قولُه: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَبَاطِلٌ: خبرٌ مُقَدَّمٌ والواوُ للعطفِ، و "مَا" مَوْصولَةٌ في مَحَلِّ رَفعِ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ على جُمْلَةِ "لَيْسَ"، و "كَانُوا" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ، وواوُ الجماعةِ اسْمُهُ والألفُ فارقة، و "يعملون" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعهِ ثبوتُ النونِ في آخره لأنَّه من الأفعال الخمسةِ والواوُ الدالَةُ على الجماعةِ ضميرٌ متًّصلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفع فاعلهِ والجُمْلَةُ في محلِّ نصبِ خبرِ كانَ، وجملةُ "كَانَ" صِلَةُ "ما" المَوْصولَةِ، والعائدُ مَحْذوفٌ تقديرُهُ ما يَعْمَلونَهُ.
قرأ الجمهورُ: {وباطلٌ} بالرفعِ، كونَهُ خَبَراً مُقَدَّماً، و "ما" مُبْتَدأٌ مُؤَخَّرٌ. وهذا على أَنَّ الكلامَ مِنْ عطفِ الجُمَلِ، عَطَفَ هَذِهِ الجُمْلَةَ على ما قبلها. أوْ يَكون اسْمُ الفاعلِ "باطلٌ" معَطوفاً على الأخبارِ قبلَهُ، أَيْ: أُولئكَ باطِلٌ ما كانوا يَعملونَ، و "مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" فاعلُهُ "باطلٌ"، ويُرَجِحُ هذا ما قرأَ بِهِ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} جعلَهُ فعلاً ماضياً معطوفاً عَلى "حَبِط". وقال مَكِّيُّ بْنُ أَبي طالِبٍ: "باطلٌ" مُبْتَدَأً و "مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" خبرُه، وهو غَلَطٌ.
وقرأ أُبَيُّ بْنُ كعبٍ فيما أَخْرَجَ أَبُو عُبيدٍ وَابْن الْمُنْذِرِ عَنهُ: "وباطلاً مَا كَانُوا يعْملُونَ" بالنصبِ، وكذلك قرأَ ابْنُ مَسْعودٍ ـ رضي اللهُ عنهما، وهي في مصحفهما، كما قالَ مَكّيٌّ، وقال أبو حاتِمٍ: ثَبَتَتْ في أَرْبَعَةِ مَصاحِفَ، ونقلَها الزَمَخْشَرِيُّ عَنْ عاصِمٍ كذلك، وفيها ثلاثةُ أَوْجُهٍ:
ـ أَحَدُها: أَنَّهُ مَنْصوبٌ بِ "يعملون" وعليه ف "ما" مزيدةٌ، وإليه ذَهَبَ مَكّيٌّ وأَبو البَقاءِ وغيرُهما، وفيه تقديمُ مَعْمولِ خَبَرِ "كان" عليها، وهي مسألة خِلافيَّةٌ، والصحيحُ جوازُها وهو كما في قولِهِ تَعالى: {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} سورة سبأ، الآية: 40. فالظاهرُ أَنَّ "إياكم" مَنْصوبٌ بِ "يعبدون".
ـ وثانيها: أَنْ تَكونَ "ما" إبْهامِيَةً، أي هي هنا صفةٌ للنكرة قبلها، وتَنْتَصِبَ بِ "يعملون" ومعناهُ: باطلاً أيَّ باطلٍ كانوا يَعملون. ومنه قولُهُ تَعالى في سورة الزُمَرِ: {مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} الآية: 9. ومنه قولُهم: (لأمرٍ ما جَدَعَ قصيرٌ أَنْفَه) ومنهُ كقولُ امْرِئِ القيس من المَديدِ:
وَحَدِيثُ الرَّكبِ يَوْمَ هُنَا ....................... وَحَدِيثٌ مَّا عَلَى قِصَرِه
وثالثُها: أَنْ يَكونَ "باطلاً" بِمَعْنى المَصْدَرِ على بَطَلَ بُطْلاناً ما كانوا يَعْمَلونَ. وقرئ أيضاً: "وبَطَل ما كانوا يعملون" على الفعل.