فيض العليم ... سورة هود، الآية: 26
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
قولُهُ ـ جَلَّ مِنْ قائلٍ: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ} أي: وَلاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ، لاَ شَرِيكَ لَهُ، وظاهرٌ في أَنَّهم كانوا يَعْبُدونَ الأوثانَ ونَحْوَها، وذَلِكَ واضحٌ بَيِّنٌ في غَيْرِ هذِهِ الآيَةِ أَيْضاً، ورَوى ابْنُ كَثيرٍ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ، وعَنْ غَيْرِ واحِدٍ مِنْ عُلَماءِ التَفْسيرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهم: كانَ أَوَّلُ مَا عُبِدَتِ الأَصْنَامُ أَنَّ قومًا صَالِحينَ ماتوا. فبَنَى قومُهُم عَلَيْهم مَسَاجِدَ، وصَوَّرُوا صُوَرَ أُولئكَ الصالِحينَ فيها لِيَتَذَكَّروا حالَهم وعِبادَتَهم فيَتَشَبَّهوا بِهِم، فلمَّا طالَ الزَمانُ جَعَلُوا أَجْسادًا على تِلكَ الصُوَرِ فَلَمَّا تَمَادى الزَمانُ عَبَدوا تَلْكَ الأَصْنامِ وسَمّوها بِأَسْماءِ أُولئكَ الصالِحينَ: وَدّاً، وسُواعًا، ويَغوثَ، ويَعوقَ، ونَسْرًا، فلَمَّا تَفاقَمَ الأَمْرُ بَعَثَ اللهُ ـ تعالى، رَسولَهُ نُوحًا، فأَمَرَهم بِعِبادَةِ اللهِ وَحْدَهً".
قولُهُ: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي: لأَنَّنِي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمِ القِيَامَةِ، إِذَا أَقَمْتُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ وَكُفْرِكُمْ بِرَبِّكُمْ، وَعِبَادَةِ غَيْرِهِ تَعَالَى. و "إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم" تعليلٌ لِ "نذير" لأنَّ النِذارَةَ من شأنِها أَنْ تَثْقُلَ على النُفوسِ فكانَتْ جديرةً بالتَعليلِ لِدَفْعِ حَرَجِ ما يُلاقونَهُ. وقد وصَفَ اليومَ بِال "أَليمِ" وهو مِنَ المجازِ العَقْلِيِّ، لأنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ العذابُ بال "أَليمِ"، لأنَّ شِدَّةَ العَذابِ لَمّا بَلَغَتِ الغايَةَ، جُعِلَ زَمانُهُ أَليماً، أَيْ: مُؤلِماً. و "أخافُ عَليكم" أو "أَخْشى عليكم"، تُسْتَعْملُ للتَوَقُّعِ في الأَمْرِ المَظْنُونِ، أَوِ المَقْطوعِ بِهِ باعْتِبارِ إِمْكانِ الانْفِلاتِ مِنَ المَقْطُوعِ بِهِ، كما هو قولُ لَبيدٍ بْنِ رَبيعةَ، يرثي أَخاهُ أَرْبَدَ:
أخشَى عَلَى أَرْبَدَ الحُتُوفَ وَلا ............. أَرْهَبُ نَوءَ السِّمَاكِ والأَسَدِ
و "عذاب" هُنا يحْتَمِلُ عذابَ الدُنْيا وعَذابَ الآخرة. فأمَّا عَذابُ الدُنيا فَلَيْسَ مَقْطوعاً بِنُزولِهِ بِهم، ولكنَّهُ مَظْنُونٌ مِنْ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِنَاءً على ما عَلِمَهُ مِنْ عِنايَةِ اللهِ بإيمانِ قومِهِ وما أُوحيَ إِلَيْهِ مِنَ الحِرْصِ في التَبْليغِ، فعَلِمَ أَنَّ شَأْنَ ذَلِكَ أَنْ لا يَتْرُكَ مَنْ عَصَوْهُ دُونَ عُقوبِةٍ.
قولُهُ تَعالى: {أَنْ لاَّ تَعْبُدوا} فيها أَوْجُهٌ أربعةٌ هي:
الوجهُ الأوَّلُ: أنْ تَكونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَقيلَةِ، و "لا تَعْبُدوا" جملَةُ نَهْيٍ في محلِّ رَفعٍ خَبَراً لِ "أنْ" المُخَفَّفَةِ، واسْمُها على ضَميرُ الأَمْرِ أو الشأنِ محذوفٌ، أي: أَنَّه لا تعبدوا.
والوجهُ الثاني: أَنَّها المَصْدَرِيَّةُ النَّاصِبَةُ، وَوُصِلَتْ هُنا بالنَهْيِ، ويَجوزُ أَنْ تكون "لا" نافَيَةً، والفِعْلُ بَعْدَها مَنْصوبٌ بِ "أَنْ" المصدريَّةِ نَفْسَها، وعلى هذه التقادير تكونُ "أَنْ": إمَّا في مَحَلِّ جَرٍّ أَوْ نَصْبٍ أَوْ رَفْعٍ، فالنَّصْبُ والجَرُّ عَلى أَنَّ الأَصْلَ: لأَنْ لا تَعْبُدوا، أَوْ بِأَنْ لا تَعْبُدوا، فلمَّا حُذِفَ الخافِضُ جَرَى فيها الخلافُ المشهورُ، والعاملُ فيها: إمَّا "أرسلنا" من الآية التي قبلَها، وإمَّا "نذيرٌ" عند الكوفيين، والأوَّلُ أشهر، فتكون المسألةُ مِنَ الإِعمال، لأنَّ المَعْنى: أرسلنا لِئَلّا تَعْبدوا إلاَّ اللهَ، أوْ بِأَنْ لا تَعْبُدوا إلاَّ اللهَ، أوْ نذيرٌ لأَنْ لا تَعبدوا، أَوْ بِأَنْ لا تَعْبُدوا.
والرفعُ فمِنْ أَوْجُهٍ:
أَحدُها: أَنَّها مبتدأٌ، وخبرُها محذوفٌ.
والثاني: أنَّها خبرُ مبتدأ محذوف.
والثالث: أنَّهُ مرفوعٌ على البَدَلِ مِنْ {إِنِّي لَكُمْ} أَوْ مِنْ موضعها. يَعني: أَنَّها في الأَصل مفعولٌ بِها فمَوضِعُها نَصْبٌ، أي: (أَرْسَلْناه بِأَنْ لا تعبدوا). وهي مسألةٌ خِلافيَّةٌ: هلْ يَجوزُ أَنْ يُراعَى أَصْلُ المَفعولِ القائمِ مقامَ الفاعِلِ فيُتبعَ لفظُه تارةً وموضعُه أُخرى فيُقال: ضُرِبَتْ هندٌ العاقلةَ، بنَصبِ (العاقلةَ) باعتبارِ المَحَلِّ، ورَفعِها باعتبارِ اللَّفظِ، أَمْ لا، مَذهبان، المشهورُ مراعاةُ اللفظِ فَقطْ.
والوجهُ الثالثُ: أَنْ تَكونَ تَفْسِيريَّةً؛ لأنَّ في تفصيلِ {إنِّي لكم} معنى القول. والمفسَّر بها: إمَّا أرسلنا، وإمَّا نذير.
وَالْوَجْهُ الرابعُ: أَنْ تَكُونَ "أَنْ" بِمَعْنَى أَيْ، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَوْضِعٌ، ويكونُ "وَلَا تَعْبُدُوا" نَهْيٌ.
و "تَعْبُدُوا" فِعْلٌ مضارعٌ مجزومٌ بـ "لا" الناهيةِ، وعلامةُ جزمِهِ حذفُ النونِ من آخِرِهِ، لأنَّه من الأفعالِ الخمسة، وفاعلُهُ واوُ الجماعة المتَّصلُ به، والجملة في محلِّ النَصْبِ بِـ "أنْ" المَصْدَرِيَّةِ، و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ أو أداةُ حَصْرٍ، و لفظُ الجلالة "اللهَ" مفعولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفعْلِيَّةُ هذه صِلَةُ أَنْ المَصْدَرِيَّةِ، و "أن" مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجرورٍ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذوفٍ تقديرُه: ولقدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إلى قومِهِ بِعَدَمِ عِبادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعالى، و "إِنِّي" حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيد، واسْمُهُ ياءُ المتكلِّمِ المتصلةِ به. و "أَخَافُ" فعلٌ مُضارِعٌ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ يَعودُ على نُوحٍ ـ عليه السلامُ، و "عَلَيْكُمْ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِهِ، و "عَذَابَ يَوْمٍ" مفعولٌ بهِ مضافٌ ومضافٌ إِلَيْهِ و "أَلِيمٍ" صِفَةٌ ل "يَوْمٍ" على سبيلِ التَجَوُّزِ، أَوْ صِفَةٌ ل "عَذَابَ" مَجْرورةٌ بالمجاورة، وهو نَظيرُ: (هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ)، وجُمْلَةُ "أَخَافُ" في مَحَلِّ الرَّفْعِ خبراً ل "إن"، وجُمْلَةُ "إنّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليل قولِهِ: "إِنِّي لَكُمْ" ولِقَوْلِهِ: "أَنْ لَا تَعْبُدُوا" .. إلخ.
وقولُهُ: "أَلِيمٍ" إسْنادُ الأَلَمِ إلى اليومِ مَجازٌ لِوُقوعِهِ فيهِ لا بِهِ، فإذا وُصِفَ بِهِ العَذابُ فهو مَجازٌ مثلُه؛ لأنَّ الأليمَ في الحقيقة هو المُعَذِّبُ، وهذا نظيرُ قولِكَ: نهارُك صائم. وهذا على أَنْ يَكونَ "أليم" صفةَ مُبالَغَةٍ وهو مَنْ كَثُرَ أَلَمُهُ، وإنْ كانَ أَليمٌ بِمَعْنى "مُؤْلم" فَنِسْبَتُهُ لليومِ مَجَازٌ ونسبتُهُ للعذابِ حَقيقةٌ.
وقرأ نافع، وعاصم، وابنُ عامر، وحمزة "إني" بِكَسْرِ الهَمْزَةِ على أَنَّهُ مَحْكِيٌّ بِفِعْلِ قولٍ مَحذوفٍ في مَحَلِّ حالٍ، أيْ: قائلاً.
وقرأَهُ ابْنُ كَثيرٍ، وأَبو عَمرو، والكِسائيُّ، وأَبو جعفر، ويعقوب، وخلف بفتحِ الهَمْزَةِ على تَقْديرِ حَرْفِ جَرٍّ وهو الباءُ للمُلابَسَةِ، أَيْ: أَرسلناهُ مُتَلَبِّساً بِذَلِكَ، أَي: بِمَعْنى المَصْدَرِ المُنْسَبِكِ مِنْ "أَنِّي نَذيرٌ"، أي: مُتْلَبِّساً بالنَذارَةِ البَيِّنَةِ.